ذلك الزميل الشهم في العمل الذي تعتبرينه أخاً لك، ليس أخاك على الحقيقة.
تلك المعلمة التي تتعلقين بها كأمّ لك، ليست أمك على الحقيقة.
أبوك الذي تعامله كأنه صديقك أو صاحبك، ليس صديقك على الحقيقة.
زوجك الذي تعيشين معه أطوار أخوّة أو أبوّة، ليس أخاك أو أباك على الحقيقة.
تلك الزميلة الحنونة الرفيقة التي تطمئن لها كأختٍ لك، ليست أختك على الحقيقة.
تلك الطالبة التي تأنس بصحبتها وتهفو لقربها كأنها إلف لك، ليست إلفاً لك على الحقيقة.
لا يُحصى كمُّ شكاوى العلاقات التي مردّ الخلل فيها لانطماس التفرقة بين الحقيقة والمجاز، ولتدرك أثر إدراك الفرق بين الحقيقة والمجاز، تأمّل العبارة التالية: "هذا أسدٌ كالحَمَل في براءة الوجه" إنك إذا غفلت للحظة واحدة عن وجود كاف التشبيه ودلالتها، وحَمَلتَ العبارة محمل الحقيقة، وحاولتَ معاملة الأسد كما تعامل الحَمَل، سينتهي بك المطاف مأكولاً كالحَمَل على الحقيقة!
فإذا طبقنا المبدأ على العلاقات، تجد أنّ من أسوأ عواقب الخلط بين الحقيقة والمجاز:
1. خلط الأقدار والأولويات الشرعية:
فالإحسان للأم المجازية مثلاً فضل محمود في الغالب، أمّا الإحسان للأم الحقيقية ففرض واجب في كل الأحوال؛ فلا يبلغ ابن منزلة التفضّل على والديه مهما أحسن ومهما أساءا، وإن علا في درجته عند الله تعالى لإحسانه على إساءتهما.كذلك العناية بصلة أصحابك وأصدقائك لا تقوم مقام العناية بصلة أرحامك المكتوبين ولا تُجزِئ عنها، فهذه جهة وتلك جهة.
2. الاغترار بسـوء المقارنة:
مثلاً، علاقة الزوجية ليست علاقة والديّة ولا علاقة أخوة ولا علاقة صداقة في مقاصدها وتطبيقاتها وحقوقها، بل هي علاقة زوجيّة وإن كان يدخل فيها من مذاقات تلك العلاقات الأخرى، لذلك مهما تلبّس الزوج في مواقف بلباس أب أو أخ، فليس لزوجته أن تقارن مَطالِبه وحاجاته وتوقعاته بتلك التي تكون من أب أو أخ.
ومثلاً آخر: إرضاء معلمتك التي تعدها مثل أمك، هو قطعاً أسهل من إرضاء أمك الحقيقيّة (التي قد لا تعدها أمّك!)؛ لأنّ اختلاف سياق المعاملة مع المعلّمة، ووقت صحبتها، ومظاهر أمومتها، وتوقعات أدائها، وطبيعة الحقوق والواجبات المتعلقة عامة، كلها تختلف في تفصيلاتها عما يكون مع عِشرَة الأمّ الحقيقيّة.
3. خـرق الحدود الشرعية والأدبية:
وذلك كأن يغترّ الأبناء بعلاقة الصداقة مع أحد الوالدين أو كليهما، فيتوهّمون إمكان النديّة أو رفع الكُلفة معهما بإطلاق كما مع أصدقائهم من أقرانهم، وهذا منافٍ للأدب وباعث على الوقوع في مخالفات أدبية وربما مؤاخذات شرعيّة، مهما تسمَّح الوالدان أو لم يمانعا.
أو كأن ينجرف رجل وامرأة أجنبيّان لحالة حب وجدانية، لا تسمح ظروفهما لسبب ما بتتويجها بالزواج الحلال، ولا وجه للتحجّج بالبراءة في استمرار مثل تلك العلاقات يقيناً، ومع ذلك يستمرّان فيتماديان بما يوقِع قَطعاً في مآخذ شرعيّة بدرجات كراهة أو حُرمة، بدءاً من تبادل الابتسام والنظر والكلام فما فوق ذلك، كله باشتهاء أكيد، وليس العيب في فطرة الشهوة بل في سياق إذكائها وسبيل تصريفها ونهج معاملتها.
وقد يقول قائل إنه يجد في علاقاته المجازيّة مذاقات لا يجدها في علاقاته الحقيقية، فيشعر بأنّ المجاز أكثر حقيقة من الحقيقة! وسيأتي بيان سبب ذلك في الجزء الثاني بإذن الله.