ملاخة: الطاغوت لا يوجده إلاّ رعية ذليلة، وذلك الطاغوت يتكون عند عدم إيقاف المُخطِئ عند خطئه، ومُجاهرته بسوء فعله دون رادعٍ له في ظل صمت المجتمع ونفاقه.
القيشاوي: عندما يأتي شخص لا يملك القدرات والمؤهلات ويصبح أعلى منصباً ممن هو أكفأ منه، فهذا الأمر يفتح الباب أمام الناس للخوض في مسألة النفاق للوصول لمبتغاهم
إنّ شخصية المنافق متآمرة بطبيعتها، تظهر غير ما تبطن، تعمل في الظلام، وتثير الفتن والدسائس، وتستعين على ذلك بأساليب الاستخفاء والتبييت والتربص والتثبيط والفرقة، وشخصية المنافق هي شخصية انتهازية؛ لأن المنافق يلعب على حبلين، ويحاول أن يرضي فريقين متصارعين؛ محاولا ًخداعهما معاً، والاستفادة منهما معاً… وهذا الموقف المذبذب هو الذي اتخذه المنافقون في كل زمان.
وغالباً ما يكون المنافق أكثر ميلاً لمبدأ العمل بأقل جهد ممكن، وهو ما يعني أنه مستعد للقيام بأي خيار يتطلب أداء عمل أقل، لذلك يلجأ للنفاق؛ لأنه يسمح له بالظهور بأفضل شكل ممكن من دون أن يكون عليه بذل أي مجهود، وليس مضطراً للتمسك بالمبادئ والقيم ولا الوقوع تحت رحمة نوبات الضمير.
ما هو النفاق الاجتماعي
من ناحيته، قال زهير ملاّخة (الأخصائي النفسي ومدرب التنمية البشرية) لـ"بصائر": "إنّ النفاق الاجتماعي هو تلك السمة المنبوذة في المزاجية، والتقلب والتّلون، والتلاعب بالألفاظ، وسقوط المبادئ والأخلاق في النشاط الإنساني بين الفرد وغيره، وبين جماعاتٍ وأخرى في العلاقات الاجتماعية بهدف الحصول على هدفٍ شخصي أو إعطاء صورة غير واقعية".
وأضاف: إنّ ارتباط النِفاق بالعلاقات الاجتماعية يُعد مؤشراً لغياب القيم والمبادئ عند بعض أفراد المجتمع ، فنجد الشخص المنافق يسمح لنفسه بممارسة الكذب والخديعة والتلاعب بالمشاعر والكلمات دون إعطاء قيمة لحقٍ أو باطل أو ظالمٍ أو مظلوم، وذلك بغرض تحقيق مصلحةٍ ما.
سبب انتشار آفة النفاق
وتابع: "لذلك نجد أنّ سبب انتشار تلك الآفة هو غياب معالم التربية القائمة على قوة الإيمان وحُسن التربية، حتى يصبح الشخص يتصنع الكلام دون وجه حق".
وأوضح ملاّخة أن سياسة التسلط والخوف التي قد ينشأ عليها الأفراد، تجعل المجتمع يتجه تدريجياً للأنا المذمومة التي تسعى للنأي بنفسها عن أية مسؤولية أو خطر أو واجب، فنجد بعض الأفراد يمارسون النفاق لإرضاء الناس، أو لإرضاء أنفسهم للوصول إلى مبتغاها.
وذكر أنّ نجاح بعض الشائعات من بث سمها في أوساط المجتمع؛ لإسقاط مبادئه وخُلُقِه، ونشر آيات النفاق فيه، حتى يفقد المجتمع تماسكه وقوته وتضعف العلاقات بين الناس ويصبح فيه الحليم حيراناً لغياب المروءة فيه.
وبيّن ملاّخة أنّ الأسباب التي قد تدفع الفرد أو الجماعة التي أسقطت كل مبادئها من أجل استمرار هيمنتها تُمارس النِفاق لمزيدٍ من التضليل والتسويف هي أسباب كثيرة ومتعددة، منها: الحصول على المكاسب، التفريق بين الجمع، إزاحة المنافسين في العمل، مصادرة نجاح الأفراد، إثارة عواطف البعض بغية استغلالها، الحسد والكُره.
النفاق من مهددات المجتمع
ولفت ملاّخة إلى أنّ النفاق الاجتماعي يُعد من المهددات المجتمعية لما ينتج عنه من انتشارٍ للكراهية، وغِياب الثقة، وانتشار الخديعة والمكر، وغياب كل معاني الرجولة والوفاء، وغياب نصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، وكل تلك المعاني الجميلة التي تغيب في ظل هيمنة المصلحة وسلبية العلاقات.
وأردف قائلاً: "إنّ الطاغوت لا يوجده إلاّ رعية ذليلة، وذلك الطاغوت يتكون عند عدم إيقاف المُخطِئ عند خطئه، ومُجاهرته بسوء فعله دون رادعٍ له في ظل صمت المجتمع ونفاقه"، مشيراً إلى أنّه يجب مقاطعة وتعرية الباطل، ونصرة الحق، والتفكير فقط بأنّ الله هو الناصر، وهو دافع الضر، وكل شيءٍ مكتوب ومُقدّر.
ونوه ملاّخة إلى أنّه يجب على كل حر وصاحب فكرة أن يتحدث بكلمة الحق ويتكلم عن قيمة الإنسان وجوهره أينما وجد ، ولا بُد أن يُشكّل سلوكه وثقافته وسيلة لمنع تلك الآفات من التغول في مجتمعاتنا وذلك بإحياء وذكر الجانب الإيجابي للعلاقات والسلوك الإنساني، الجانب الذي يُعطي الفرد طاقة وإيجابية وثقة وفخراً بنفسه، على حد وصفه.
علاج النفاق
وحول كيفية التعامل مع الشخص المعروف بنفاقه وتلونه، قال ملاخة: "إنّ تلك الوجوه المتلونة التي نهى عنها النبي –صلى الله عليه وسلم- وزجرها القرآن في مواطن كثيرة، لها منا الإيضاح والنصيحة والبيان بلباقة دون صراع، لكن إن استمرت على سوئها وضعفها فلها منا التجاهل مع إبقاء الصورة الجميلة لنا مثلاً ونموذجاً للغير ليُحتذى".
وختم ملاّخة حديثه بالقول: "إنّ التخلص من النفاق يتطلب التنشئة الاجتماعية السليمة للأجيال الجديدة، والعمل على تهذيب النفوس وتصويب السلوك والأخلاق، وإشاعة الوعي الجمعي والقيم العليا، وهذه هي مهمة كل المثقفين ورجالات الإصلاح وأئمة المساجد وكل الغيورين على مستقبل مجتمعنا؛ لكي نجتث ونقتلع هذه الآفة التي تتعارض مع قيمنا الدينية والأخلاقية من جذورها".
الفرق بين النفاق والمجاملة
من جانبه، قال الداعية الإسلامي مصطفى القيشاوي: "قبل الحديث عن النفاق الاجتماعي يجب التفريق بين المجاملة والنفاق، موضحاً أن المجاملة شيء طيب فهي من الجمال والتودد والتلطّف، وهي خصلة مطلوبة بين الناس لإبقاء العلاقات الإنسانية مُتماسكة وهي ضرورة من ضروريات الحياة، أما النفاق فهو من النفق أي المكان المظلم الذي يختفي فيه الإنسان، ويكون النفاق فيه مصلحة ومن تجلياته السكوت عن الخطأ، والتملّق لنيل الرضى خوفاً من الفقدان والخسارة لمن هم في مواقع السلطة وصنع القرار".
وأضاف أنّ الله أمرنا بالكلام الطيب الجميل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] فلذلك يجب على المسلم أن يُجامل الناس ويقول لهم كلاماً طيباً ليناً لكن من دون تحقيق مصلحة .
ونوه القيشاوي إلى أنه في إحصائية سُئل بعض الناس عن سبب عدم مشاركتهم لبعض المناسبات الاجتماعية وبرروا ذلك بسبب وجود حجم كبير من النفاق في تلك المجالس، فمثلاً: يكون شخص يبغض آخر ولم يره منذ زمن وعندما يراه مصادفةً يُظهِر له المحبة كذباً وتملقاً، رغم أنه في ذات المجلس كان يذم فيه.
وتابع" كما يمكن للإنسان أن يحترم مديره في العمل، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "وأنزلوا الناس منازلهم" وذلك من باب أن منزلته كبيرة، ولأنه مثلاً محترم وعلاقته طيبة في التعامل مع موظفيه، لكن أن أحترمه وأتقرب منه لأصعد على أكتاف رفاقي فذلك نفاق وتملق".
وشدد على أن التحدث في ظهر الإنسان بشيء وبوجهه شيء آخر فهذا نفاق، وهو ما قال عنه النبي – صلى الله عليه وسلم-: "إن من شر الناس ذو الوجهين"، فتجده كالحرباء يتلون وفق ما يكون أمامه.
النفاق منذ القِدم
واستدل القيشاوي بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيلقى الرجل وله إليه حاجة فيقول له: أنت كيت وكيت (يثني عليه) لعله أن يقضي من حاجته شيئاً فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء" متسائلاً: أين الثقة بالله تعالى، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه؟
وقال: "إنّ البعض يحب أن يسمع الكلام الجميل المنافق، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] فبعض المسؤولين -مُنذ القِدم- كانوا يستدعون بعض الأفراد أو الشعراء وظيفتهم هي مدح المسؤول، ففي عهد المماليك حدث زلزال كارثي كبير، فجاء أحد الشعراء يتقرب للسلطان ويمدحه قائلاً: "وما زُلْزِلت مصر من كيدٍ أَلمَّ بها ولكنها رقصت من عدلكم طرباً"!
واستدرك قائلاً: "لكن هناك موقف آخر، يظهر الحاكم الصالح حين تُذكّره حاشيته بعيوبه، فعندما دَخلَ أبو العَتاهية على الخليفةِ هارونَ الرشيد حينَ بَنى قَصرَهُ، وزَخرَفَ مَجلِسَهُ، واجتمعَ إليه خَواصُّه، فقال له هارون الرشيد: صِفْ لنا ما نَحنُ فيه مِن الدنيا
فقال: عِشْ ما بدا لك آمناً * في ظلّ شاهِقَةِ القُصورِ
يُسعى إليكَ بما اشتهيتَ * لدى الرواحِ وفي البُكور
فإذا النفوسُ تقعقعت * في ضيقِ حَشرَجَةِ الصدور
فهُناك تَعلمُ مُوقِنًاً * ما كُنتَ إلاّ في غُرور
فبكى الرشيدُ بكاءً شديداً حتى رُحِم، فقال له الفضل بن يحيى: بَعثَ إليكَ أميرُ المؤمنين لِتَسُرَّه فأحزَنتَه، فقال له الرشيد: دَعهُ فإنه رآنا في عَمىً فَكَرِهَ أنْ يزيدَنا عمىً.
صور النفاق حديثاً
وأشار إلى أنّ "الأصل ألّا يفرح المسؤول بمن يمدحونه، بل يفرح بمن ينتقدونه؛ لكي يُقوّم نفسه ، وللحد من ظاهرة النفاق، فعندما تمدح الشخص بأكثر ما فيه فأنت تُفسِده، الأصل أن توجه له النصائح فبذلك تكون قد خدمته".
لافتاً إلى أنّه "لو كانت هناك حريات وقدرة على النقد والتعبير عند الحاكم لما كان هناك نفاق، لكن لأنه ممنوع الانتقاد في أغلب المجتمعات فنجد المنافقين بكثرة".
وأكد القيشاوي أنّه عندما يأتي شخص لا يملك القدرات والمؤهلات ويصبح أعلى منصباً ممن هو أكفأ منه، فهذا الأمر يفتح الباب أمام الناس للخوض في مسألة النفاق؛ للوصول لمبتغاهم، وهو أمر غير مبرر لكنه يُساعِد على إنشاء ظاهرة النفاق، لكن عندما يسود العدل والإنصاف، ومن يجتهد في عمله يصل لمكانٍ مُميز باجتهاده وقدراته، فبالتأكيد ستتراجع نسبة النفاق، على حد تعبيره.
وأشار إلى أن بعض الناس وصلوا لدرجة المبالغة في النفاق، فقد يذهب المنافق لبيت عزاء يخص أحد المسؤولين، وتجده يبكي أكثر من المسؤول على قريبه، برغم أنه لا يعرف من هو الميت من باب التملق والتقرب.
وتابع: "البعض الآخر نسمعهم ونقابلهم في وسائل المواصلات والشوارع ونجدهم لا يكفّون عن شتم ولعن بعض المسؤولين، وبعد وقتٍ قصير نجدهم ذاتهم يمدحون ذاك المسؤول على صفحته الشخصية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وهذا نفاق".
شر الناس ذو الوجهين
وشدد القيشاوي على أن المطلوب: "أن نكون بوجهٍ واحد؛ لأنّ مَنْ هُم بوجهين ذكرهم الرسول قائلاً: "شر الناس ذو الوجهين"، والأسوأ من ذلك من تجده بثلاث وأربع وجوه حسب مصالحهم، والأصل أن للإنسان شخصيته؛ كي لا يُحسب على المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] فتجده يقول للناس: "والله أحبكم وأنتم تاج رأسي، لكن في قلبه يكرههم ويبغضهم جداً".
واستشهد بقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] فمن صفات المنافقين: "وإن يقولوا تسمع لقولهم" كلامهم جميل وفي ظهرك "يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلب" لذلك قال أحد السلف الصالح :"إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك"، بحسب القيشاوي.
وأردف "رُوي عن بعض السلف أنه إذا مُدِحَ الرجل في وجهه أن يقول: "اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون"
تأثير النفاق وكيفية التخلص منه
وأكد القيشاوي على أن "أهل النفاق الاجتماعي لا يعيرون اهتمامًا لأصحاب الكفاءات، وإنما يعتمدون على من يُطيع نفاقهم، مما يؤدي إلى هجرة الكفاءات وهم محملون بالحقد على مجتمعهم الذي تربوا فيه، فتفقد الأجيال ولاءها وانتماءها للأوطان، ويرتمون في أحضان الأوطان التي هاجروا إليها، مما يتسبب في إحداث ازدواجية في الناشئة التي ستخرج من هذه الأجيال المهاجرة، بسبب أن المناصب القيادية في المؤسسات والهيئات لأهل التملق والنفاق، وهذا يؤدي إلى تفاقم الأزمات وظهور الفشل".
وختم القيشاوي حديثه بالقول:" إنّ التخلص من آفة النفاق الاجتماعي يكون عبر الالتزام بما جاء به القرآن الكريم من مبادئ وتعاليم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فلا بد من أن نتبين مما ينقل لنا؛ لكيلا يكون البريء هو الضحية ولكيلا ينجح المنافق بمهمته"، مضيفاً أنه يجب تذكير المنافقُ في سوء خاتمته ووخامة عاقبته، وأنّ كل حيلة ومكر يرجع إلى صاحبه في الدنيا وبذلك شهدت التجارب والاعتبارات.