الشاعر: مراعاة نفسية الفقير من واجب الغني
السوسي: كل الأحكام الشرعية تراعي الحالة النفسية
يُروى في سيَر التابعين: أن علي بن الحسين -رضي الله عنهما- كان يَحمل جِرَابَ الخُبْز على ظهْرِه ليلا فيتصدَّق به، ويقول: "إنَّ صدقةَ السرِّ تطفئ غضبَ الربِ"، وبهذه الطريقة كان من أهل المدينة من يعيشون دون أن يدروا من أين يأتيهم معاشهم، حتى مات علي بن الحسن ففقدوا ما كان يصلهم ليلاً... بهذه الطريقة كان -رضي الله عنه- يتصدق في الخفاء، لا يرائي الناس بما يفعل، ولا يحرج أحداً في حاجته.
عكس هذه الصوة تماماً نراها في أيامنا الحالية، تجد أحدهم إذا تصدق بأقل القليل لا يتوقف عن التقاط صور المحتاجين وهم يستلمون صدقته ويعبرون عن فرحتهم بها ويشكرونه، وتتذرع بعض الجهات التي تسلك هذا السلوك بأنها مضطرة لنشر نشاطاتها عبر الإعلام لضمان الحصول على مزيد من التبرعات من أهل الخير.
أمام الصورتين السابقتين من التصدق، نسأل عن ضوابط الإسلام المتعلقة بطريقة تقديم الصدقات، وعن الآثار النفسية والاجتماعية المرتبطة بها.
آثارٌ بعيدة المدى
يقول أستاذ علم النفس بجامعة الأقصى الدكتور درداح الشاعر: "إن الصدقة من الناحية النفسية تدخل السرور على المتلقي، وفيها أجر كبير للمعطي، ولو فكّر المعطي بهذه الطريقة سيدرك أنه المستفيد الأكبر، وبذلك سيدخل السرور عليه هو أيضاً."
ويضيف: "طريقة تقديم الصدقة لها أثر نفسي أكبر من الصدقة ذاتها، وكلما تمت عملية التصدق في ظروف تحافظ على نفسية المُتصَدَق عليه، تكون آثارها إيجابية، وتساهم في تقريب القلوب"، متابعاً: "مثلاً، لو أُعطيت الصدقة في الخفاء بعيداً عن أعين الناس، يكون أثرها النفسي أكبر وأعظم؛ لأن الأصل المحافظة على ماء وجه الآخر وعدم كشف عورته أمام الناس، بينما إن كانت علنية قد يصيب صاحبها الرياء، وربما تنقطع علاقة المعطي والمتلقي".
مهما تأذى الفقير بسبب طريقة إعطائه الصدقة، فغالباً لن يمتنع عن أخذها لحاجته وحاجة أهله لها، لذا فمراعاة نفسيته من واجب الغني، بحسب الشاعر.
ويوضح: "أخذ الصدقة علناً وبشكل فاضح، يُشعر متلقيها بالدونية والنقص، وقد يدفعه ذلك للانطواء والانعزال عن المجتمع وقطع العلاقة بمن حوله ، لعدم قدرته على الظهور بين الناس، وكذلك يسبب له الاحتراق النفسي، ولن يجد من يلجأ له لقناعته أن المجتمع لا يراعي نفسيته وخصوصيته، ويفقد كل معاني التقدير للذات، وربما يصل به الحال للتفكير بالانتحار.
ويؤكد: "هذه المشاكل الاجتماعية تعني أن تقديم الصدقة بطريقة مهينة يحقق عكس الغايات المطلوبة منها، فهو يقطع العلاقات بدل تقويتها، ويرهق نفسية الفقير بدل إسعاده".
وعن الأطفال تحديدا، يرى الشاعر أن إدخالهم في عملية التصدق له تأثيرات سلبية كبيرة عليهم، مبينا: "استغلال الأطفال سببه نقص الإدراك والوعي، وقد يدفع صاحب الحاجة أطفاله لاستلام الصدقة لتجنب الإحراج، ظناً منه أن الصغير لا يتأثر".
يقول: "كل المشاعر الموجودة عند الكبار، مثلها تماما عند الصغار، وهذا يعني أن الطفل يستقبل الصدقة بكل معاني الحسرة والنقص، ولو استلمها بطريقة لبقة ومراعية للمشاعر، لمعرفته أنه ما أخذها إلا بسبب العَوَز".
ويضيف: "ثمة بُعد آخر، وهو متعلق بنظرة الطفل لأسرته، يراها غير قادرة على توفير احتياجاته إلا بإراقة ماء الوجه، وهذا له ما يتبعه من تأثيرات سلبية ترافق شخصيته ونفسيته طيلة حياته".
قولُ الشرع
وللشرع رأي في تقديم الصدقات، فثمة ضوابط متعلقة بكيفية إتمام هذه العملية، وهي بلا شك مراعيةٌ لنفسية متلقي الصدقة.
أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية الدكتور ماهر السوسي يقول إن البعض يظن أن لا علاقة بين الشرع والجانب النفسي، بينما الحقيقة أن الإسلام عند تقرير أي حكم شرعي يحاول المواءمة بين الجانبين، وكل الأحكام على كثرتها وبلا استثناء تهتم بالحالة النفسية.
ويضيف: "قرر الشرع مجموعة من الضوابط من أجل أن تكون عملية التصدق خالية من أي سلوك يؤثر على الحالة النفسية للمُتصدَق عليه، وعلى المُتصدِق نفسه".
يعرفنا السوسي على الضابط الأول من خلال الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264] وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله..."، وذكر منهم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
ويوضح: "من النصين نستطيع أن نقول إن أول الضوابط الواجب توفرها ألا يكون في الصدقة إيذاء للفقير، وألا تأخذ صورة المنّ، فلا يشعره صاحب المال أنه يمن عليه بإعطائه جزءاً من ماله؛ لأن في الأمر تجريح لمشاعر الفقير وإشعار له بالمهانة والمذلة بسبب تقبله الصدقة، وهذا أمر يرفضه الإسلام".
ويبين: "يُستحب أن تكون الصدقة في الخفاء، وهذا أكثر حفاظا على مشاعر المُتصدَق عليه، وأكثر إبعاداً له عن الحرج ، وفي ذلك أيضا تقويم لسلوك المُتصدِق أو الغني، فالخفاء يساعده على النأي بنفسه عن التباهي والتفاخر، ويخلّصه من شح نفسه وبخلها؛ لأن الإنسان يصعب عليه أن يعطي ماله للآخرين".
ويلفت السوسي إلى أنه لا ينبغي إخبار الفقير بأن ما يأخذه هو صدقة، وإنما يمكن تقديمها له تحت مسمى آخر مثل "هدية"، أو غيرها من الأسماء التي تطيب بها نفسه.
ويشير إلى أنه ليس شرطاً أن يعطي المتصدق صدقته للناس بنفسه، فأحياناً يكون من الجيد إرسالها مع شخص أقرب لقلب الفقير، فيكون من الهيّن عليه أخذ المال.
ويقول: "من الآداب أن يدعو الفقير للمتصدِق عليه لتطيب نفس الغني، الذي قد يشعر بالضيق؛ لأنه يعطي للآخرين من ماله، لكن بالدعاء يشعر بالراحة وبأن الله يعوضه ما أعطى".
ويؤكد: "لو تحققت تلك الضوابط، هنا نكون قد توصلنا لشكلٍ مثالي في عملية التصدق".
وفيما يتعلق بتصوير المحتاجين أثناء تلقيهم الصدقات، ونشر الصور عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، يؤكد السوسي: "هذا أسلوب يرفضه الشرع؛ لتعارضه مع الآية التي تنهى عن المن والأذى في تقديم الصدقة"، موضحاً: "قد تطلب بعض الجهات المتبرعة في الخارج الصور للتوثيق، وهذا مقبول لتحقق المصلحة واستمرار التبرع، لكن على ألا يطلع على الصور سوى المعنييّن، ودون نشرها لما في ذلك من إيذاء وجرح للمشاعر".