إن الناظر لبنية الحضارة الإسلامية وقدرتها العجيبة على الانتشار يجد أنها من الحضارات الداعمة لمفاهيم العولمة وأدواتها، التي أبرزها الانفتاح على التجربة الإنسانية بكل أشكالها، بل والتفاعل معها تحت شعار (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، مؤكدة على أهمية وضرورة إعادة البشرية إلى (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) و(فطرة الله التي فطر الناس عليها)، وذلك لتحقيق فكرتها الكبرى وهي : مراد الخالق من خلق هذا الإنسان ابتداء (إني جاعل في الأرض خليفة) فيرتبط بربه ضمن علاقة (إلا ليعبدون) ويتفاعل مع الكون ضمن علاقة (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).
والمتتبع لما جرى من حراك اجتماعي وسياسي وعسكري ضخم إبان انطلاق دعوة الإسلام في كل الأرض -عبر تلامذة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام- يعلم علم اليقين أن الإسلام استخدم مفهوم "تسويق الأفكار ونشرها" بمسمى [الدعوة إلى الإسلام]، والذي يعد إحدى أهم استنتاجات العولمة الحديثة، بل وعمل المسلمون على تحويل بعض الأفكار إلى منتجات مادية أخذت أبعاد دعوية وفكرية، فالمسجد والمسبحة والحجاب وفانوس رمضان وهلال العيد وخاروف الأضحى وسجادة الصلاة ولباس الإحرام وغيرها إنما هي عبارة عن رمزيات مادية لأبعاد فكرية -بغض النظر عن أعماقها الدينية أو العقدية أو أحكامها الفقهية-.
فالعولمة إذن -كأدوات لتلاقح الأفكار ونشرها وتعليبها ونشرها- ليست هي المشكلة، بل المشكلة أنها جاءتنا -نحن أمة الإسلام- في لحظة من الضعف والمهانة وعدم التماسك وقلة البضاعة ما نجاري به هذا السوق المفتوح، مما سمح للأقوى -وهو بطبيعة الحال الغرب بكل أفكاره ومنتجاته وقوته العسكرية- من أن يخترق واقع الضعاف حضاريا -وهو بطبيعة الحال نحن وغيرنا من الحضارات الشرقية- كنتيجة من نتائج فرضية "سيادة ثقافة الغالب" لابن خلدون.
أما ما نشهده في هذه الأيام من عودة الناس إلى الخطاب الهوياتي الصارخ (من أديان أو أعراق أو عادات قبلية أو...) إنما هو هروب نحو الذات مخافة الزوال في هذا الخضم الكبير، وهو تفكير -بوجهة نظري- سوسيولوجي منطقي لكل حضارة تمتلك عناصر قوة كامنة -كما هو الإسلام بالطبع-.
لذا علينا كأمة -ابتداء- ومعاشر الدعاة والعاملين في حقولها المختلفة إلى استكمال ما بدأناه من مشروع استنهاض الهوية الإسلامية بين أفراد الأمة وتكتلاتها البشرية ودولها القطرية وطموحاتها القومية والاممية، ثم التحشيد مرة أخرى لهجمة حضارية نصّدر بها أفكارنا القرآنية، فالفرصة مواتية، والبشرية تئن من أفكار الغرب المادية المتوحشة وتتشوق إلى طروحات أكثر اعتدالا وعدلا ورحمة بين الناس، وهذا هو لب الإسلام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).