ضاقت مكة بالدعوة، واشتد الحصار على لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه في دار الأرقم، ووقع الكثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- تحت دائرة الأسر والتعذيب خاصة الفقراء منهم والذين ما زالوا عبيداً لسادة قريش، وهاجر من استطاع إلى الحبشة؛ هرباً بالدين من شدة بطش الكفار، بحثاً عن أرض يحميها العدل والأمان؛ ليمارس المسلمون دينهم بحرية، فكان لا بد من توسيع نطاق الدعوة خارج حدود مكة، ومن هنا اضطر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يبحث عن أرض أخرى غير تلك التي أغلقت دونه عقولها وآذانها، فكانت الطائف هي وجهته الخارجية الأولى.
يقول ابن إسحاق في الجزء الثاني من سيرة ابن هشام: "خرج رسول الله إلى الطائف يلتمس النصر من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا، خرج إليهم وحده إلا من زيد بن حارثة، وصل إلى الطائف وعمد إلى ثلاثة نفر من ثقيف -وهم سادتها وأشرافها- فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: أما وجد الله غيرك ليرسلك، وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فتركهم النبي وطلب منهم أن يكتموا عنه؛ كي لا تعلم قريش فيجترئون عليه، واجتمع الناس عليه حتى لجأ إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة فأكرماه ببعض العنب الذي جلبه عبدهما عداس؛ ليتعرف على النبي، أنه يردد كلاما لم يعرفه إلا من كلام الأنبياء، فيجثو ويقبل قدم ورأس النبي ويده وقدميه".
ومن رحلة الطائف نجد تخطيط النبي الذي منع قريشا من ملاحقته -صلى الله عليه وسلم- فقد خرج ماشياً ولم يمتط دابة؛ كي لا يوحي لقريش أن سفره طويل، ولم يصطحب معه إلا غلامه زيد بن حارثة، وقد كان ابنه بالتبني ولم يكن القرآن تنزل بتحريمه، فهو في نظر قريش يسير مع ابنه بشكل معتاد، ووجه حديثه بكبار القوم؛ لأن الناس على دين ملوكهم، وفي عودته تسرب الخبر إلى قريش فاجتمعت؛ لتلاقيه بالشماتة، فيعود النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوار المطعم بن عدي الكافر، ويقضي عنده ليلة ثم يعود لمكة في صحبته وأبنائه وهم يحملون السيوف حتى وصل الكعبة فطاف وطافوا معه حتى أتاهم أبو سفيان فقال لمطعم: أجائر أم تابع، قال: بل جائر، فقال أبو سفيان: إذا لن تخفر. حتى انتهى النبي من طوافه وانصرف في حمايتهم.
إنه درس عظيم لأصحاب الرسالة اليوم، إن رسالة الإسلام عالمية، لا يحدها وطن جائر، ولا يمنعها حاكم ظالم ، اتخذ كافة الأسباب حتى إذا ضاقت عليك الأرض فاطلب الأمان في وطن آخر، ثم لا تتوقف عن الدعوة في سبيل الله.
الإجراءات الأمنية في لقاء القبائل وبيعة العقبة الثانية:
اتسمت الخطوات الدعوية للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالحذر الشديد؛ حفاظا على العناصر الأساسية، والتي سوف تحمل الدعوة فيما بعد، وتتحرك بها في قبائلها والقبائل الأخرى.
وتم التخطيط في فجر الدعوة على أساس الحفاظ على الطاقة البشرية؛ فالتضحية بالكوادر التي تمثل اللبنات الأولى تعتبر تضحية بالدعوة ذاتها ، فالجهاد لم يؤذن به بعد لعدم جاهزية الفئة المؤمنة له، وليس للإسلام دولة وأرض ثابتة يقف عليها.
1. الاتفاق المسبق على الزمان والمكان:
فالموعد مع مندوبي القبائل أو بعض الأفراد الباحثين عن الدعوة أو الساعي إليهم النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يعقد عبر اتفاق مسبق بتحديد الوقت، وتحديد المكان؛ وذلك ضماناً لعدم ملاحقة قريش للمؤمنين الجدد، أو منع التواصل من البداية.
2. سرية اللقاء:
فلم يكن مسموحاً بالإفصاح عن أي من تلك التفاصيل التي تخص لقاء النبي بهؤلاء، بمعنى أدق: سرية التنظيم وعلانية الدعوة، فليس مطلوباً من الدعاة أو المسؤولين الإعلان عن أي من مخططاتهم لنشر كلمة الله بين الأمم، وإنما دراسة الواقع بشكل جيد، وكسب الإنسان قبل كسب المواقف، والحفاظ على أرواح المسؤول والتابع وأمنهم في بلادهم ومجتمعاتهم، فهم الأساس الذي سوف تنبني عليه الدعوة.
فليس مطلوباً من الدعاة أو المسؤولين الإعلان عن أي من مخططاتهم لنشر كلمة الله بين الأمم، وإنما دراسة الواقع بشكل جيد، وكسب الإنسان قبل كسب المواقف
3. الخطط البديلة والاستعداد للطوارئ:
الخطة الجامدة التي لا تحتمل التغيير حين يطرأ عارض أمني أو عملي، هي خطة فاشلة منذ البداية؛ فهي لا تتسبب في وقف العمل في بعض مراحله فحسب، وإنما قد تتسبب في خسارة القائمين عليه .
فالمرونة والقابلية للتعامل مع المواقف المستجدة هي سمات الداعية كما حدث في بيعة العقبة الثانية حين صرخ إبليس اللعين ووشي بالمجتمعين، فأمر النبي صحابته بالتفرق بهدوء؛ كي لا يشك بهم أحد وهم ينصرفون متفرقين في الطرقات، وحدد موعداً آخر، فلم يصبهم الارتباك الذي يؤدي لتسليم المجموعة كلها.
4. الأمر بانتخاب النقباء:
النقباء هم أفراد منتخبون من القاعدة التي أبرم الاتفاق معها أو دعوتها، أو أبرمت معها معاهدة أو لقاء يدور حول مصلحة الدعوة أو الفكرة، وقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدة لكل لقاء حول هذا المضمون، فلن يصح أن يقابل -عليه الصلاة والسلام- أكثر من سبعين رجلاً، والعدد مرشح لأن يتضاعف في مواقف أخرى وأزمنة أخرى قد تصل للملايين، فليس معقولاً أن نجري اتفاقية مع شعب من الشعوب مثلاً، أو مع حزب من الأحزاب بكل أفراده الذين قد يعدون بالملايين، وإنما وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبدأ الانتخاب والاختيار، وذلك ليس بما يعرف بالقائمة المطلقة، وإنما بالقائمة النسبية التي راعت عدد من يمثلون الأوس، وعدد من يمثلون الخزرج؛ وذلك لكي لا يلفت الأنظار بالعدد الكبير، وكي يسهل الاتفاق أيضاً على كافة البنود مع العدد الأقل الذين يمثلون القاعدة الشعبية الكبيرة، وقد جرى الأمر بالانتخاب بناءً على توجيهات النبي؛ كي لا يثير على الاختيار المباشر أو الشخصي أي ضغائن في النفوس، فالقوم هم من اختاروا من يتحدث باسمهم ويتفاوض عنهم.
العوامل التي تساعد على نجاح التخطيط:
1. الإيمان العميق بنصر الله والثقة به:
فإيمان الداعية بصحة الرسالة التي يحملها، واعتقاده بأنها منصورة على أية حال سواء به أو بغيره، هو الحافز الأكبر للعمل وفق آلياتها واحتياجاتها، والبذل في سبيلها، والتزام شروطها.
وقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يؤمن بتلك القضية ويعمل حد أن يهدئ الله من حرصه على إيمان الخلق، حتى أجهد جسده الشريف فقال له - سبحانه - في محكم آياته: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]؛ فالمؤمن مطمئن إلى جنب الله، وما عليه إلا أن يلتمس الوسائل الصحيحة التي تتلاءم مع الهدف العظيم، ويترك النصر وتوقيته وكيفيته لرب العالمين.
إيمان الداعية بصحة الرسالة التي يحملها، واعتقاده بأنها منصورة على أية حال سواء به أو بغيره، هو الحافز الأكبر للعمل وفق آلياتها واحتياجاتها، والبذل في سبيلها، والتزام شروطها
2. الصبر الجميل والمثابرة:
والعمل العام -خاصة في الدعوات الجديدة والغريبة على الناس- وعمليات التغيير الكبرى، تحتاج لصبر ومثابرة وجهد وعمل جاد، واستماتة وعدم اليأس من ردود الأفعال العنيفة للبعض ، فما من نبي إلا ولاقى من العنت والظلم والافتراء الكثير، وما من مصلح حاول صناعة أي تغيير في المجتمع إلا ووُجِه بأشد الاتهامات، ومنهم من مات في سبيل دعوته ولم ير ثمارها التي قد تؤتي أكلها بعد أجيال من حياته، فالصبر ضرورة لازمة، وصفة للداعية وصاحب الرسالة لا يجوز له التحرك بدونها.
3. اتباع الأسباب والوسائل المتاحة:
العمل والتوكل، العمل واليقين، العمل والصبر، العمل هو الصفة الملازمة لكل صفة أخرى؛ كي تصل لمبتغاك -خاصة في العمل مع الله- وإن التوكل بدون عمل هو استهزاء بالله، والعمل مع ترك التوكل هو عمل ليس لك من الله فيه أجر ، وانتظار السماء أن تأتي بالفرج بدون بذل كافة الأسباب المتاحة -سواء كانت أسباباً إيمانية بحسن التعبد لله، أو أسباباً مادية باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للوصول للهدف- في العمل الحركي والعمل العقلي الفكري هو نوع من العته وليس الإيمان، إن الهجرة وترك الوطن لا تستدعي السكون، وإنما تستدعي التحرك على مستويات عدة؛ لتحرير البلاد ودعوة العباد ، التحرك على المستويات القانونية، والثورية، والسياسية، ومخاطبة المنظمات العالمية؛ معذرة إلى الله في بذل الأسباب، وأما النتائج فإن الله قادر على أن يبارك في هذا الجهد، أو يأتي بالنصر من حيث لا يحتسب صاحب الدعوة، إن النصر لا يتأتى إلا بعد الحراك المضني، واستفراغ كافة الأسباب التي يمكن اتخاذها حتى ينقطع الرجاء من البشر، وهنا فقط تتدخل السماء ، تلك كانت عبقرية النبي -صلى الله عليه وسلم- في التخطيط في فجر الدعوة لتبليغ الرسالة للعالم الخارجي، مع الاحتياط الكامل لكل العوارض التي قد تودي بدعوته في مهدها، لتكون في غضون سنوات معدودة، الدولة الأكبر عالمياً، والحضارة الأكثر توازناً على الإطلاق.