عشرة أدعية قرآنية لصلاح الذرية (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » عشرة أدعية قرآنية لصلاح الذرية (1-2)
doaa2

إن لفظ "الذرية" يكون واحداً وجمعاً، ويُطلق كذلك على الذكر والأنثى من الذرية.

إن الذرية هي أغلى ما يمتلك الإنسان بصفة عامة، والذرية الصالحة هي أكثر ما يشغل ذهن وتفكير المسلم بصفة خاصة حتى قبل أن يتزوج.

إن المسلم اللبيب الأريب يعلم أنه سيُسأل عن أهله وذريته بين يدي ربه حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}" [التحريم:6].

إن المسلم الفطن يعلم أن ذريته هي امتداده في الحياة بعد موته وأنهم الأثر الذي إن كان طيباً لن يُذكر إلا بأنبل الخصال، ومحامد الفعال، بل وبهم تثقل موازينه  حيث قال تعالى: {... وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} {يس: من الآية 12].

* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إذا ماتَ الإنسانُ انقَطعَ عنه عملُهُ إلَّا من ثلاثٍ: صَدقةٌ جاريةٌ. وعِلمٌ يُنتَفعُ بِهِ، وولدٌ صالحٌ يدعو لَهُ" (رواه الترمذي).

إن المسلم اللبيب الأريب الفطن لا يفتر لسانه عن الدعاء لذريته بالصلاح والهداية بُغية أن يظفر بالذكر الحسن والسيرة الطيبة، وبُغية أن يقدِّم لنفسه بين يدي ربه ما يُبيِّض به وجهه ويُرضيه سبحانه عنه.

أدعية قرآنية لصلاح الذرية

وردت العديد من الأدعية في القرآن الكريم على لسان الأنبياء والصالحين يدعون الله تعالى فيها أن يُصلح لهم ذريتهم وأن يكتب لهم من الهداية ما تقرّ بها أعينهم.

وسوف أقوم -مُستعيناً بالله تعالى- باستعراض هذه الأدعية حسب ورودها في المصحف مع التعليق البسيط على كل دعاء لكي نستخرج منه بعض ما به من مآثر وفضائل وأسرار.

وقبل ذلك لابد أن أذكِّر أنَّ الدعاء ليس مجرد كلمات تتمتم بها الشفاة ولكن كما قال ابن عطاء رحمه الله: "إن للدعاء أركاناً وأجنحة وأسباباً وأوقاتاً، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم" أهـ.

1- قال تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:128- 129].

* جاء هذا الدعاء بصلاح الذرية من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حيث دعوا لنفسيهما، وذريتهما بالإسلام الذي هو الاستسلام المُطلق وانقياد القلب والجوارح لكل أمر أو نهي.

- عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ) قال: كانا مُسلمين، ولكنهما سألاه الثبات.

- جاء في تفسير القرطبي: "إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة" أهـ.

- إن من يتدبر هذا الدعاء يجد أنه شمل الذرية إلى أعلى درجاتها حتى عم العرب وكل من هم من ذرية إبراهيم وإسماعيل حيث ورد في الدعاء {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129] وذلك لعلمهما عليهما السلام أن فضل الله واسع ونعمته سابغة وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

2- قال تعالى: {... وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36].

* ورد هذا الدعاء على لسان السيدة (حنة بنت فاقود) -بحسب بعض المفسرين - أم السيدة مريم عليهما من الله السلام.

- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ ﷺ، يقولُ: ما مِن بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِن مَسِّ الشَّيْطَانِ، غيرَ مَرْيَمَ وابْنِهَا ثُمَّ يقولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإنِّي أُعِيذُهَا بكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] (صحيح البخاري).

- جاء في تفسير القرطبي: "قال علماؤنا: "وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد؛ فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يَرُومه الشيطان، كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أهـ.

* من يتدبر دعاء أم مريم عليها السلام يجد أنه بالرغم من قِصَر الدعاء إلا أنه قد أصاب أصل الداء والبلاء وهو العصمة من الشيطان الرجيم، فمن عُصِم من الشيطان فقد عُصِم.

3- قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران: 38].

- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "فلما رأى ذلك زكريا -يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف- عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل: "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ"، قال: فذلك حين دعا" أهـ.

- إن الرغبة في الذرية شعور فطري جامح لدى الإنسان لا يفتر داخله بل يزداد جموح هذا الشعور وتأججه كلما تقدم الإنسان في العمر، بل إن طلب الذرية الصالحة والاستكثار منها من الأمور التي أمرنا بها الشرع الحنيف.

- إن من العادة أن من لم يُرزق بالذرية يلح في طلبها، ومن يُرزق بالذكور يُلح في طلب الإناث، ولا تقر عين الإنسان إلا بعد يُرزق بما تمنى ولا يهدأ باله إلا بصلاح هذه الذرية.

- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "دَخَلَ النبيُّ ﷺ عَلَيْنَا، وَما هو إلَّا أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ، خَالَتِي. فَقالَتْ أُمِّي: يا رَسولَ اللهِ، خُوَيْدِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ له، قالَ فَدَعَا لي بكُلِّ خَيْرٍ، وَكانَ في آخِرِ ما دَعَا لي به أَنْ قالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ له فِيهِ)" (صحيح مسلم).

* إن من يتدبر دعاء نبي الله زكريا عليه السلام وهو الذي قد حُرم الذرية إلا أنه طلب "ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً" إذ ما فائدة الذرية إن لم تكن طيبة !

* إن قول نبي الله زكريا عليه السلام "ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً" قد جمعت في طياتها كل المحامد والشيم والفضائل والخصال الطيبة فهي طيبة الخلق، طيبة الخِلقة، طيبة الأدب، طيبة الأثر، طيبة النفع، طيبة في نفسها وطيبة لغيرها، وطيبة بكل ما تحمله الكلمة من معان يعجز اللسان عن وصفها.

4- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].

- يقول الإمام البغوي: "فإن قيل: قد كان إبراهيم عليه السلام معصوماً من عبادة الأصنام، فكيف يستقيم السؤال؟ وقد عبد كثير من بنيه الأصنام فأين الإجابة؟ قيل: الدعاء في حق إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت، وأما دعاؤه لبنيه: فأراد بنيه من صلبه، ولم يعبد منهم أحد الصنم" أهـ.

- عن مُغيرة، قال: "كان إبراهيم التيميّ يقصُّ ويقول في قَصَصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم، حين يقول: ربّ "اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ" أهـ.

- من يتدبر الآية يجد أن الشغل الشاغل لنبي الله إبراهيم عليه السلام في هذا الدعاء هو صحة عقيدة ذريته وسلامتها من كل دخن أو زيغ عن الحنيفية السمحة التي بُعث بها عليه السلام.

5- قال تعالى : {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].

ترك نبي الله إبراهيم عليه السلام زوجته "هاجر" أم إسماعيل وابنها إسماعيل عليهما السلام في مكة ولم يكن بها مسكن في ذلك الوقت ولا شيء من مقومات الحياة إلا اليسير (التمر والماء) ثم دعا ربه أن يشملهم بحفظه ورعايته ليكون ذلك عوناً لهم على أن يكونوا من الموحدين الأتقياء.

ومما دعا به نبي الله إبراهيم ربه هو أن يجعل {أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} أي: تحبهم وتحب مكانهم الذي هم فيه.

ومما دعا به نبي الله إبراهيم ربه {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} لعلمه عليه السلام أن سعة الرزق وضيقه ليست بوجود الناس ولكن بأمر ومشيئة رب الناس .

من يتدبر هذه الآية يجد أن نبي الله إبراهيم عليه السلام قد انشغل بما يُصلح عقيدة ذريته قبل انشغاله بما يُصلح أبدانهم.

ويجد أن نبي الله إبراهيم عليه السلام حين دعا لذريته اختار من الناس أفئدتهم لأنه إذا صلح الفؤاد صلح الجسد كله كما أخبر النبي ﷺ.

ويجد أن نبي الله إبراهيم عليه السلام قال: " أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ" ولم يقل (أفئدة الناس) لأن ليس كل الأفئدة تستجيب للخير ولا تصلح لفعل الخير.

- قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس، والروم، والترك، والهند.

- وقال سعيد بن جبير: لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: "أفئدة من الناس" وهم المسلمون.

* يقول الإمام القرطبي تعليقاً على هذه الآية: "لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالاً على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم" أهـ.

الدروس والعبر التي نستخلصها من الأدعية السابقة

1- استحضار نية الاستكثار من الذرية الصالحة وذلك من قوله: "أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ". عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قال: "وَاللَّهِ إِنِّي لأُكْرِهُ نَفْسِى عَلَى الْجِمَاعِ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنِّي نَسَمَةً تُسَبِّحُ" (أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى").

2- ضرورة الانشغال بصلاح الذرية وطلب الحفظ لهم من الزيغ حتى بعد الممات وذلك لقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}، ولقول أم السيدة مريم عليهما السلام: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.

3- إن العبرة ليست بوجود الذرية ولكن بهدايتها وكونها صالحة طيبة مُباركة وذلك لقول نبي الله زكريا عليه السلام في دعائه: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}.

4- الحرص كل الحرص على غرس عقيدة التوحيد في نفوس الأبناء وذلك لقول نبي الله إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}.

5- إن من تمام التوكل على الله في حفظ الذرية هو أن توفر لهم الزاد المادي والمعنوي وألا تفتر عن الدعاء لهم بالحفظ والصلاح.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …