في الآونة الأخيرة نشر المهندس محمود صقر (وهو أحد الكُتَّاب في مجال الفكر الإسلامي) منشوراً/ مقالاً على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تناول فيه قضية الحُرِّيَّة الفردية والمجتمعية في سياق تنظيري مختلف طرح زوايا جديدة مهمة فيما يخص الجدل بشأن الحُرِّيَّات بين ما يراه الغرب وقيمه الليبرالية، وبين ما تراه المجتمعات الأخرى.
وفي حقيقة الأمر فإن المقال مهم بالفعل، وأثار اهتمام العديد من الدوائر الإعلامية التابعة للحركات الإسلامية، بالرغم من أن فيه بعض الانعطاف حول مشكلات في مفهوم الحُرِّيَّة وتطبيقاتها لدى هذه الحركات؛ فقد نشره موقع رابطة العلماء السوريين، وموقع مجلة "المجتمع" التي تصدرها جمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت.
ولعل أهم ما في المقال الذي حمل عنوان "الخوف من الحُرِّيَّة"، ويفتح باباً للنقاش الأساسي لهذا الموضع من الحديث حول مفهوم الحُرِّيَّات، وقيمة الحُرِّيَّة -بشكل عام- في المجتمعات الإنسانية، على مستوى الفرد والجماعة، هو جوهر مهم لفكرة الحُرِّيَّة ربما لا نجده حاضراً في ذهنية الكثير من متناولي هذه القضية، هو ما أشار إليه صقر في صدد أنه من صميم الحُرِّيَّة، أن نترك للناس حُرِّيَّة الاختيار.
وقد تبدو هذه بدهية، ولكن أهميتها في أنها تلامس قضية مهمة يتعرض لها المسلمون، سواء المجتمعات المسلمة أو تجمعات المسلمين في بلدان المهاجر أو البلدان التي هم فيها أقليات في صدد التزامهم بنمط معين من الحياة، بدءاً من المظهر، ووصولاً إلى التفاصيل اليومية والعامة الدقيقة لحياتهم.
فهو يطرح قضية ارتباط الحُرِّيَّة بخصوصية المجتمع، أي أن كل إنسان وكل مجتمع هو حُرٌّ في الاختيار، وبالتالي فهو حرٌّ في أن تكون اختياراته في إطار هويته.
ففي هذا الصدد، هناك خلل حاصل في الخطاب الإعلامي والحقوقي، والسياسي والفلسفي القادم من الغرب، وتتبناه بعض دوائرنا الإعلامية والفكرية والحقوقية في العالم العربي والإسلامي، وهو تنميط الحُرِّيَّة وما فيها من قيم مجتمعية وسياسية وكذا وفق التصور الغربي لها.
هناك خلل حاصل في الخطاب الإعلامي والحقوقي، والسياسي والفلسفي القادم من الغرب، وتتبناه بعض دوائرنا الإعلامية والفكرية والحقوقية في العالم العربي والإسلامي، وهو تنميط الحُرِّيَّة وما فيها من قيم مجتمعية وسياسية وكذا وفق التصور الغربي لها
وهذه المشكلة تعاني منها جميع المجتمعات الإنسانية الأخرى، وليس المسلمين فحسب؛ حيث نجد أن هذا السجال قائم في الهند واليابان والصين وسائر الأمم الأخرى الكبيرة العدد وذات اعتداد بهويتها.
وهذا الجدل مُتصاعد منذ الستينيات الماضية، ثم مع ظهور مذهب ما بعد الحداثة، ووجد طريقه إلى البرامج الأكاديمية في كليات السياسة في العالم العربي منذ نهايات الثمانينيات الماضية.
الأمر ببساطة: أن ما يروج في هذا الصدد هو الحُرِّيَّات من وجهة النظر والقيم الغربية، وبالتالي، فإن محاولة فرضها على الإنسانية يتناقض مع جوهر الحُرِّيَّة ذاته .
الأمر أقرب إلى موقف غُلاة العلمانيين من الفكرة الإسلامية والتيارات التي تتبناها هويةً لها، فغُلاة العلمانيين يعيبون على الإسلاميين الإقصاء وعدم قبول الآخر وغير هكذا اتهامات، بينما هم أنفسهم من أكثر التيارات شراسةً في إقصاء الإسلاميين وعدم قبولهم .
تتصل بذلك نقطة خلط ونقطة جهل: الخلط حاصل بين ما يفعله المسلمون - ومنهم الإسلاميون - وبين جوهر الإسلام، وهذه هي نقطة الجهل؛ فهم لا يقرأون عن الإسلام ولا يعرفون عنه من مصادره، ولا بشكل صحيح، فيصدرون أحكامهم على الدين وعلى متبني مشروعه الحضاري، بينما الإسلام أسس أول دولة مواطنة دستورية في التاريخ، في الحقبة المدينية من بعثة الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ويجتزئون بعض الأحداث التي وقعت في العهد النبوي من سياقاتها، ويبنون عليها نموذجاً مفاهيميّاً ومعرفيّاً خاطئاً عن الإسلام، ويخرجون علينا بخطاب ديماجوجي فيه الكثير من الغبن والإقصاء الذي يعيبونه على الإسلاميين!
وبالعودة إلى السياق الأساسي للحديث، فإنه من صميم الحُرِّيَّة أن تتركني أختار، أيّاً كان شكل ونوع هذا الاختيار، طالما أنني لا أفرضه عليك أو على أي أحدٍ آخر، فلا تفرض عليَّ نمطاً من الحُرِّيَّات لا يلائمني ولا يتفق مع قيمي الأخرى.
ففي النهاية، الحُرِّيَّة قيمة من ضمن القيم العظمى التي تحكمنا، مثل العدالة والمساواة، وثلاثتهم يشكل سُلَّم القيم الأساسية في النماذج المعرفية والأيديولوجيات المعروفة، وترتيبها مختلف بين الإسلام الذي يُعلي من قيمة العدالة، وبين الاشتراكية التي تُعلي من قيمة المساواة، وبين الليبرالية التي تُعلي من الحُرِّيَّة.
ولو نظرنا إلى الأمور نظرة شمولية لوجدنا أن الإسلام أكثر هذه النظريات صيانة لقيمة الحُرِّيَّة في الإطار المطلق، فهو ضمنها في العقيدة نفسها، فكيف لا يضمنها في باقي الأمور؟
إلا أن البعض يريدها أن تكون حُرِّيَّة من دون ضوابط، حُرِّيَّة بهيمية، وحتى ما يطالبون به، يأباه الحيوان كما سوف نقول في موضع لاحق.
وهذا المنطق يدعمه الغرب نفسه على مستوى الممارسة، فمنذ مائة عام، كان مضمون الحُرِّيَّات في المجتمعات الغربية، مختلف عن الآن، وكنا نجد أن سُترة النساء ونقابهن، كان في قصور الملكيات نفسها.
فهناك تلك الصورة الشهيرة التي تعود إلى العام 1916م، للإمبراطورة زيتا (زوجة إمبراطور النمسا في ذلك الحين، تشارلز الأول) والتي كانت ترتدي فيها النقاب الأسود ضمن طقوس العزاء في الإمبراطور السابق، فرانتز جوزيف الأول.
أي أن ما يدعون إليه في صدد ما يطلقون عليه "حقوق" و"حُرِّيَّات" المرأة إنما هو أمور ليست ثابتة أو مستقرَّة لديهم، بل وتنافي الفطرة السليمة المُستَقر عليها منذ بدء الخليقة، ونجدها مكتوبة في كتب ومُدوَّنات الفلاسفة الغربيين الأوائل الذين صنعوا جذور الفكر الغربي الحديث -مثل أفلاطون وأرسطو، وكانت لديهم مدرسة أبيقوريوس، فيلسوف اللذة والبهيمية- مُنكَرة وغير مقبولة.
وبعيداً عن نقطة طبيعتنا -كمُتَدينين أو محافظين أو أصحاب أخلاق؛ لأن هذه الأمور باتت تثير تحسُّسات البعض، وبات لديهم رد فعل شرطي معارض لها- إننا سوف نتكلَّم من باب الفطرة السليمة.
بعض البرامج والناشطين في مجال حقوق الإنسان من دعاة الحُرِّيَّة المطلقة، وبالذات في مجال "حقوق" و"حُرِّيَّات" المرأة التي لا يرون فيها سوى "حُرِّيَّة الجسد"، ومنها حُرِّيَّة الملبس وحُرِّيَّة الجنس خارج إطار الزواج، وحُرِّيَّة الإجهاض، يطرحون هذه القضايا بصورة لا نجدها ولو في عالم الحيوان.
ومن بين النماذج التي تحضرني في هذا المقام، برنامج "في فلك الممنوع"، الذي تبثه قناة "فرانس 24" العربية.
فهذا البرنامج نموذج مهم للشطط الحاصل في هذا المُقام، ولو أخذنا موضوع حُرِّيَّات المراة وحقوقها، فإن البرنامج يتبنى المدرسة التي تتكلم عن حُرِّيَّة الجسد، وترى في الجنس عملية طبيعية، ولا ضرورة لربطها بالزواج، "أنت بتجوع فتأكل، وتعطش فتشرب، وإنت كذا؛ فتمارس الجنس!"
هذا يُقال صراحةً وبالحرف، وواحدةٌ من الضيوف قالت صراحة إنها تمارس الجنس خارج إطار الزواج كلما عنَّ لها ذلك؛ لأنه احتياج إنساني.
لو قارنَّا ذلك بما نراه في وثائقيات وكتب وموسوعات عالم الحيوان، فأولاً/ حتى الماضي القريب، بعض القنوات الغربية كانت تتفادى في وثائقياتها عرض مشاهد للجنس في عالم الحيوان، سبب ذلك كان أخلاقيّاً وعلميّاً.
وعلميّاً -وهي النقطة المهمة التي نريد لفت الانتباه إليها في هذا الموضع- أن هناك الكثير من الحيوانات الثديية والطيور تختبئ وهي تمارس تلك العملية؛ فمن المستحيل تقريباً أن ترى الجِمَال وهي تنزو بإناثها، أو الأفيال، والأسود تستتر في هذه الحالة، السفاد في عالم الطيور، لا تراه، وهناك دراسات تشير إلى أن بعض الحيوانات العجماء -ومنها الإبل- قد تموت لو أحسَّت بأن أحداً رآها في هذه الحالة.
وفي عالم الحيوان أيضاً، فإن مقياس ارتقاء حيوانٍ ما له مؤشرات ودرجات، من بينها مدى تمتُّعه بالطابع الاجتماعي في حياته، أي يعيش في زُمَرٍ وجماعات تتعاون فيما بينها وتدافع عن بعضها البعض، ومعرفة هذا الحيوان أو ذاك بمشاعر عُليا بالمعنى العلمي، مثل الأمومة والحزن، وأيضاً، استتارهم خلال عملية التواصل الجسدي بين ذكر وأنثى من نفس النوع.
لكننا نعلم أن الإنسانية تنزلق رويداً رويداً إلى مجال البهيمية، فشيوع القتل، وتطبيع الحديث عن الفاحشة أو الأمور شديدة الخصوصية -مثل هذه- صارت من "الحُرِّيَّات" التي يطالب بها البعض!
إن هذا الأمر هو واحد من أعقد الأمور التي تواجه الإنسانية بالكامل، وليس الدعوة والعمل الإسلامي فحسب؛ ففيه تتمترس مدرسة أبيقوريوس في ثوبها المعاصِر، بمتاريس الإعلام ومنصات قوية للغاية، صوتها واصلٌ ونافذٌ في أقاصي الأرض.
وبالتالي؛ فإن العبء الذي يواجه العاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة ثقيل، لكن مفتاحه الأساسي هو الإعلام ووسائط النشر المختلفة ، ولتعود إلى سيرتها الأولى، أي الكتيبات والرسائل الصغيرة التي توضِّح مثل هذه الأمور، في ظل التعقيد الذي باتت عليه النفاذية في المجال الافتراضي مع القيود التي وضعتها حكومات وشركات التزويد بالخدمة على المحتوى العربي والإسلامي، والذي كان أكثر مَن تضرر منه المقاومة الفلسطينية.
وتهدف هذه العملية إلى إعادة صناعة وعي الأجيال الحديثة بحقائق فلسفات هذه الأمور، وبما أتى به الإسلام من تعاليم ونظم في صددها، بشكل يتفق مع نظافة تصورات الدين للحياة، ومع الفطرة السليمة.
الحرية، الإعلام، الفهم، الغرب، الحضارة