كيف تكون التنشئة على الهوية العربية واللسان العربي؟

الرئيسية » بصائر تربوية » كيف تكون التنشئة على الهوية العربية واللسان العربي؟
artabic-children

النشأة على العربية هويّة ولسانًا تتطلب أوّلًا تشرّب الناشئ لها مَلَكةً، أي كجزء من كيانِه وتكوينه الطبيعي، يجـده في نفسه تلقائيًا دون تكلّف استدعائه بين الحين والحين. هذه الملكة تتأتى من مجاراة اللسان الحاضر في بيئة حاضنة، لا التكلّف التدريبي لها لبضع ساعات! لذلك تسيء غالب أساليب التربية الحديثة حين تختزل شأن العربيّة وشأن التربية معًا في مجرّد "التدريب على التحدّث بالفصحى "، فتُشرِّح العربيّة علميًّا لمجموعة أصوات وحروف، كل غايتها أن تتقن نطقها وتحسن التلفّظ بمخارجها ؛ أو تحوّلها لـ "حزمة" أدوات مهارية من "قواعد" النحو والبلاغة وأساليب الإنشاء تحفظها وتطبقها، وتلك غاية عربيّتك!

وأما النشأة العربية المعنيّة في هذا المقام، فقِوامها ذائقة العرب والحس العربي، الذي ينشأ تبعًا لمخالطة كلام العرب نفسه قبل قواعد ذلك الكلام. وقواعد العربية أصلًا وُضِعت تالية لكلام العرب ومبنيّة عليه. وتكون هذه المخالطة بمعايشة العرب في كلامهم أدبًا وفكرًا: في شعرهم ونثرهم، وفي قصصهم ونوادرهم ومروءاتهم، وفي تعابيرهم واصطلاحهم عند الغضب والرضا والجِدّ والهَزْل، وفي سِيَرهم وتراجمهم وتاريخ أيامهم قبل وبعد الإسلام، وفي متونهم التي أصّلوا فيها فكر العربية عربيًا، كالمعاجم ومُلَح البلاغة وشوارد الحكم.

الحس العربي ينشأ تبعًا لمخالطة كلام العرب نفسه قبل قواعد ذلك الكلام. وقواعد العربية أصلًا وُضِعت تالية لكلام العرب ومبنيّة عليه

بمثل هذه المخالطة ينشأ الناشئ متشرّبًا لما يُسمّى روح العربية وسِرّها، ويعتاد العربية اعتيادًا يُنبِت عقلَه ويُوقِد ذهنه ويُجَوِّد قريحة الفهم والتصور عنده، ويؤثر كذلك بالضرورة في بنيته الكلية تأثيرًا بيّنًا: خُلقًا وسَمتًا وديانة. فإذا استقامت جذور الهوية العربية في نفس العربي، تفاوت بعدها الأفراد في درجات البيان والبلاغة، وإن تمكّنوا جميعًا من الفصاحة والإبانة بلسان سليقي طبيعي.

ثم إذا تعلّم ذلك المتشربُ للسان العربية وروحِها قواعدَها لاحقًا، صاغت له ما كان قام في نفسه بالفعل من معاني البيان، وثبَّتت عنده ما انضبطت عليه أذنه بالسليقة من نشاز اللحن وانسجام الإعراب. وتحضرني قصة أمير الشعراء أحمد شوقي –رحمه الله– حين كان ينشغل في أثناء عروض المسرحيات التي يحضرها بتأليف قصيدة أو نظم أبيات عفوية، فإذا لَحَن المُمثّل في أداء بيت أو نطق عبارة، رفع شوقي رأسه مُستنكرًا في الحال، مع أن الناظر إليه يَحسَب أنه كان مُستغرقًا فيما يؤلّف استغراقًا يمنعه من التدقيق! فكان يقول في ذلك: "اللحن في اللغة كالمِسمار في الأذن" ، أي لا بد أن يلفتك تلقائيًا دون تكلف تدقيق، حتى لو لم تكن عالمًا بالموضع الإعرابي للكلمة فإنك تقف بالسليقة والذائقة على حقها من الرفع أو النصب أو الجر في الكلام. فذلك مثال على من مَلَك العربية مَلَكة. وخلافه من فهم قواعدها كفهمه للرياضيات، واستوعب صورتها كاستيعابه للمُجسّمات، وخلا من جوهر الاتصال بها في روحها الفطريّة وسرّها البياني.

إن عقيدة العربية عندنا وكرامتها يجب أن تنزّهها عن أن تكون قضية رَطَانة ببعض الفصحى المُتكلَّفة لمجرد التباهي بالرطانة لا بالعربية . كأنما الشأن التَّلمّظ بمجموعة ألفاظ مشكولة لا بُنيان هُوِية معمورة. وكل رطانة مُتكلِّفة مُتَقعِّرة للفصحى دون تصور متكامل وهوية كامنة وراءها وقعها كالمسمار في الأذن، ويصدُق عليها قول نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام: {إن اللهَ عز وجل يُبْغِضُ البَلِيغَ من الرجالِ، الذي يَتَخَلَّلُ بلسانِهِ، تَخَلُّلَ البقرةِ بلِسانِها} [رواه الترمذي]. والمقصودُ مَنْ يَتكلَّفُ ويُكْثِرُ الكلامَ ويَتفاصَحُ بِه ويَتشدَّقُ على النَّاسِ، فيُقلِّبُ لسانَه في فَمِه وبينَ أسنانِه تَلذُّذًا بالكلامِ، كما تَفْعَلُ ذلك البقَرةُ تَلذُّذًا بالطَّعامِ!

ويظل للعربية لسانًا وكِيانًا كرامة لا تُدانَى وأصالة لا مِراء فيها، يصيب منها اليوم كلٌّ بحسب همته وعنايته، ومدى التفاته للجذور قبل الظهور. و"من أحب اللهَ تعالى أحب رسولَه، ومن أحبّ رسولَه العربيّ أحبّ العرب، ومن أحبّ العربَ أحبّ العربيّة، ومن أحبّ العربيّة عُني بها، وثابر عليها، وصرف هِمَّته إليها" [الثعالبيّ – فقه اللغة].

- وإذا جئنا للتطبيق العمليّ، فأولى أركان التنشئة العربية ربط الطفل بكتاب ربه، وأولى حبائله حفظ كلام الله تعالى، دون الدخول في جدل عقيم مع قضية فهم الكلام قبل حفظه أم حفظه قبل فهمه. فالحفظ لا ينفي الفهم، لكن الفهم له درجات ومراحل، كما سيلي بيانه في البند التالي.

أولى أركان التنشئة العربية ربط الطفل بكتاب ربه، وأولى حبائله حفظ كلام الله تعالى، دون الدخول في جدل عقيم مع قضية فهم الكلام قبل حفظه أم حفظه قبل فهمه

- ويلي ذلك إشراب الناشئة روح العربية وذوقها وسَمْتها، بما هو مبثوث في مكارم العرب ومروءاتهم قبل مجيء الإسلام، الذي تمّم فيهم مكارم الأخلاق حين هداهم الله به، ونفى عنهم خبائثها مما لا يرتضيه رب العباد. ويراعى تَجنّب مرويات التاريخ من منظور وتأليف النصارى والمستشرقين ومُحدَثِي المؤرخين. وبما هو مبثوث في هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام في سيرته وأحاديثه. وبما في سير وتراجم أعلام الأمة خاصة عبر أزمان انبساط حُكم الخلافات الإسلامية.

- ثم اللسان العربي شِعرًا ونثرًا. وفي شعر العرب ومنثوره ما هو ميسور للناشئة، كأشعار شوقي للأطفال وأشعار المروءات، وقصص كليلة ودمنة (الأصليّة لا المختصرة المبسطة بلغة منزوعة الدَّسَم!)، وقصص التراث. ومن مؤلّفات الأطفال الحديثة سلسلة الينابيع وسلسلة السنابل من نشر دار (أبو الهول)، وسلاسل المكتبة الذهبية والزرقاء وسمير الطفل من نشر (مكتبة مصر)، وسلسلة المكتبة الخضراء التي لا تخلو من تأثر في قصصها بالمقتبسات والأفكار الأجنبية.

- ثم الفقه بالصورة بمستوى يناسب النشء حتى يتشكّل في ذهنه مفوم التصور الشرعي لهذا الوجود، ويتدرّج فيه لحين اكتماله.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …