الكثير من النداءات اليوم - خصوصاً في أوساط العمل وبغرض التشجيع على التغيير والتطوير - تُطالب الكثيرين بالخروج مما يسميه الغرب بمنطقة الراحة (comfort zone) والانطلاق لخوض تجارب يستصعبها الإنسان، وهوايات لا يميل إليها، والأسوأ هو الاستمرار في عمل يقضي فيه معظم وقته وهو يبغضه، فهل هذا النداء وتلك المطالبة في محلها؟ وإذا لم يكن كذلك فما صحيحه إذن؟ وما غرض الغرب الأصلي من استخدام تلك العبارة؟
ما هي منطقة الراحة comfort zone؟
من الناحية اللغوية، منطقة الراحة تعني وجودك في موقف تشعر فيه بالراحة، ولا يتم فيها اختبار قدرتك وعزيمتك ، ومن الجانب النفسي، فمنطقة الراحة تعد حالة نفسية يشعر فيها الإنسان بالألفة مع عاداته وعمله والأشخاص من حوله، ويشعر بأن الأمور تحت السيطرة، ولا ينتابه شعور القلق والتوتر أو أنه تحت ضغط إلا فيما ندر، وأداؤه على هذا ثابت ولا يتغير.
لماذا يشجع الكثير من الخبراء وأساتذة علم النفس على الخروج منها؟
لأنها تُخرج الإنسان من دائرة ما تعود عليه، وتجعله يتعلم أموراً كثيرة، ويرى نفسه من زاوية مختلفة، وتتطور لديه مهارات جديدة، وهذا أمر لا ريب حسن ولا غبار عليه، ولكن ما يحدث هو أن منحى تطوير النفس وكسر الروتين يتحول إلى إجبار الناس على عمل يثير توترهم وإنزعاجهم، فمثلاً قد يُطالب إنسان في العمل بتولي أمور الإدارة وهو لا يرغب بها، أو التدرب على برنامج معين ليس ضمن تخصصه؛ من باب الخروج عن الروتين، والأسوأ إجبار البعض على ممارسة هوايات معينة لا يميل إليها؛ لكسر العادات، وإن لم يستفد منها الشخص أو يستمتع بها، وإذا رفض الشخص فإنه عادة ما يُتهم بضيق الأفق أو عدم قدرته على تقبل التغيير… إلخ.
هل الأفضل هو الخروج من منطقة الراحة أو البقاء فيها؟
يرجِّح الكثير من الخبراء والباحثين في علم النفس أفضلية أن يبقى الإنسان في منطقة الراحة على أن يتوسع فيها، بمعنى إذا كان هناك شخص يهوى تعلم اللغات فلا يتوجب عليه الانطلاق لتعلم التصميم أو البرمجة للخروج من منطقة الراحة، ولكن تعلم لغات جديدة غير التي تعود عليها الإنسان، خاصة إذا مضى على التعلم سنوات، واعتاد على اللغة التي تعلمها فصارت بالنسبة له كاللغة الأم، والأمر بالضبط يشبه عمل الممثلين إلى حد كبير؛ فالممثل الناجح لا يغير وظيفته ولكنه فحسب ينوع في أدواره، بينما الممثلون الذين يظلون في منطقة الراحة هم الذين يمثلون نفس الأدوار، فتراهم دوماً في جانب الخير أو الشر مثلاً ولا يتزحزحون عنه، فالخبراء النفسيون يقترحون بقاء الإنسان في دائرة الراحة على أن ينوع دائرة معرفته أو أدواره إن صح التعبير.
فهم يرون أنه بعد سنوات من التعليم الإجباري، وعدم اختيار الإنسان للكثير من العلوم التي يحبها ويميل إليها، سيكون من الغبن مطالبته بالاستمرار في عمل لا يرغب به ولا يحبه ما تبقى له من عمر! وإذا ما التفتنا لأمر الإجبار والإكراه في الإسلام، فسنرى أن الإنسان لا يجبر على أي نوع من العبادات خارج إطار الفرائض، فمن أراد الصدقة تصدق، ومن أراد الاستزادة من النوافل استزاد... إلخ.
وكذلك في بعض الفروض توجد مساحة من الحرية، كما في الحجاب فهو فرض على المرأة المسلمة بشروط معينة، غير أن هذه الشروط لا تشمل الألوان (إلا في حدود تحقيق الشروط وذلك بألا تكون ملفتة أو مبهرَجة) ولا طريقة ارتداء غطاء الرأس ولا نوعية الملابس، وبهذا تجد الكثير من النساء المسلمات من جميع أنحاء العالم يرتدين الحجاب بألون وأشكال مختلفة وكلها في الإطار الشرعي، فلا إجبار على طريقة أو لون محدد.
أما فيما يتعلق بما يرغب الإنسان به من أعمال أو مهارات وهوايات، فنجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يشجع الصحابة -رضوان الله عليهم- على فعل ما يرتضونه من الأعمال، فمن يرى ذاكرته قوية كأبي هريرة -رضي الله عنه- روى له الأحاديث حتى صار من أشهر الرواة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن رأى فيه الفروسية والقيادة مثل أسامة بن زيد -رضي الله عنه- نصًّبه على قيادة الجيش وهو دون الثامنة عشرة، وكان يشجع الشعراء من أمثال حسان بن ثابت -رضي الله عنه- على نظم الشعر.
فيما يتعلق بما يرغب الإنسان به من أعمال أو مهارات وهوايات، فنجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشجع الصحابة - رضوان الله عليهم - على فعل ما يرتضونه من الأعمال
والخلاصة هي أن عملية فرض وظائف وأعمال ودراسة علوم معينة على أنفسنا أو من حولنا لا يوجد لها أية مرجعية دينية أو علمية أو منطقية ، أما إذا كان تطبيق مسألة الخروج من منطقة الراحة هو من باب التنويع وكسر الروتين فهو أمر اختياري، ويرجع لصاحبه، وما إذا كان يرغب بهذا الأمر أم لا، وإنما مهاجمة وتحدي البعض للشخص الذي يميل لمنطقة الراحة ويعمل ما يرضيه -سيما في خضم حياة لا تخلو من منغصات- فهو لا ريب أمر غير مبرر، ويتعامل البعض -لشديد الأسف- مع ذلك الشخص كما لو كان يرتكب معصية وسيأثم إن لم يخرج من منطقة الراحة والروتين والمألوف! فلنكف عن الحكم على الناس والتدخل في شؤونهم، وهنيئاً لمن وجد منطقة من الراحة يسعد ويستمتع بها -ما لم يغضب الله- في غمار زحمة الحياة ومشاكلها التي لا تنتهي!