لا بد لنا أن نعيد النظر فيما نعمله، ونتساءل: لماذا نعمله؟، حتى لا نكون ممن يعملون بلا غاية وهدف.
فإذا تساءلنا: لماذا نكتب؟ فإن الإجابة ستختلف من كاتب لكاتب، باختلاف التكوين والخلفية.
أول دافع للكتابة دافع فطري، إذ يكتب الكاتب استجابة لنداء فطري يحثه على الكتابة، ليستمتع بكتابته عندما يكتبها، كما يستمتع لاعب الكرة بلعبه، والرسام برسمه، والموسيقي بموسيقاه.
الكتابة هي موهبة يعطيها الله لبعض خلقه، وغاية استمتاع الموهوب أن يستمتع بموهبته، وممارسته لموهبته هي لون من ألوان البواعث الفطرية الجبليّة ، التي تشبه إلى حدٍ ما ممارسته للضرورات من الأفعال كالأكل والشرب.فإذا كان الناس يحتاجون بالضرورة للأكل والشرب حتى يعيشوا، فإن الكاتب يحتاج إلى الكتابة حتى يعيش، ذلك إن كان موهوباً مفطوراً عليها. فإن عاش الكاتب الموهوب المفطور بغير كتابة، فإن حياته حينها تكون حياة ناقصة، يغيب عنه منها ما لا يُعوض إلا به.
ومتعة الكاتب بكتابته تشبه متعة الآكل والشارب بما يأكله وما يشربه، بل وتزيد متعة الكاتب بكتابته أكثر من الآكل والشارب، لأن الكاتب يُطعم روحه عندما يكتب، وطعام الروح أهم وأمتع من طعام الجسد.
وبعض الكتاب يكتبون طلباً للشهرة والمكانة، إذ يعوّض بعضهم نقصاً عندهم بالكتابة، حتى يكون لهم دور في مجتمع لا دور لهم فيه، وتكون لهم مكانة في مجتمع لا مكانة لهم فيه. فالكتابة عند هؤلاء وسيلة للرفعة والمكانة والشهرة، وهم في سبيل ذلك مستعدون لكتابة أي شيء، بل وكتابة الشيء وضده.
وبعضٌ من هؤلاء غايتهم المكانة عند أولي الأمر، ومستعدون في سبيل ذلك للنفاق والكذب إلى أبعد حد، فهم يكتبون إرضاء لولي الأمر، فإذا ذهب ولي الأمر فهم في رضاء من بعده، بل وفي هجاء من سبق زيادة في إرضاء من لحق، وهكذا؟
وبعض الكتاب يتخذون من الكتابة وسيلة للتكسب والتربّح، لا تهمهم رسالة الكاتب إذ يكتب، حيث الإصلاح والتنوير والتبصير، ولكن كل همهم الكسب والمال. وهؤلاء كسابقيهم، مستعدون لكتابة أي شيء، بل وكتابة الشيء وضده، المهم أن تبقى الكتابة لهم وسيلة ربح وكسب.
وبعض الكتاب يكتبون ظناً منهم أنهم يحسنون الكتابة، يبحثون بذلك عن شيء يحسنونه، ويشار إليهم فيهم بالإجادة والإحسان. وهم في الحقيقة ليسوا كتاباً، ولا يحسنون الكتابة كموهبة وفن. ويظلّون يحاولون، حتى يستطيع بعضهم من طول المحاولة وكثرتها أن يجد له موطئاً في عالم الكتابة، لكنه يظلّ مع ذلك كاتبَ صنعةٍ لا كاتب طبعٍ وموهبةٍ وفطرةٍ، وشتان.
وبعض الكتاب يكتبون من منطلق عقائدي ديني، دافعهم في الكتابة دافع ديني، يريدون بها الإصلاح والتبصير رغبةً في الثواب من الله عز وجل. فالدعوة إلى الله وإلى دينه ومنهجه فرض فرضه الله على كل مسلم، كلٌ على حسب ما يستطيعه من الدعوة، وما يحوزه من العلم والمعرفة لأجلها.
وهذا الصنف من الكتاب يجدون في أنفسهم استعداداً فطرياً للكتابة، ويحركهم الدافع العقائدي الديني، فيجعلون من كتابتهم وسيلة للدعوة والإصلاح، راغبين في ثواب الله وجنته. وهؤلاء هم أشرف الكتاب، لأن غايتهم هي أشرف غاية، فليس بعد الله غاية.
إن الذين يخدعون أنفسهم ويظنونهم كتّاباً، سيأتي عليهم اليوم الذي يفيقون فيه من غفلتهم، ويعلمون أنهم أضاعوا حياتهم هباء فيما لا يحسنونه.
وإن الذين يكتبون إرضاء لولي الأمر، أو بحثاً عن المكانة والشرف، أو بحثاً عن الكسب والمال، سيعلمون حين نهاية حياتهم أنهم أضاعوا موهبتهم التي وهبهم الله إياها في الزيف والشر، وسيندمون حين لا ينفع الندم.
وإن الذين يكتبون عن موهبة وفطرة، ثم لا ينطلقون في كتابتهم إلا من منطلق الموهبة والفطرة، بلا غاية يتطلعون إليها، ولا منهجية يسيرون عليها، بل يكتبون لمجرد الاستجابة للباعث الفطري الذي جُبلوا عليه، سيعلمون كذلك حين نهاية حياتهم أنهم أضاعوا موهبتهم وحياتهم هباء.
ذلك الذي سيرضيه الله عند موته، ويرضيه بعد موته، ويرضيه في حياته، مهما بلغ إنكار الناس له، وعدم التفاتهم لما قدّمه، فعندما تكون الغاية الله، ويجتهد المجتهد لأجل غايته هذه فيما فتح الله به عليه، فلا عليه إن بلغ اجتهاده مبلغه أو لم يبلغ، فإن الله يقبل العمل وإن لم يقدم نتيجة، ويجازي على الاجتهاد ولا ينظر أنجح الاجتهاد أم لم ينجح.