العالم اليوم ينقصه من التربية ما هو أشد من نقصه في العلوم، فتقدم العلوم أساسه تقدم التربية فلم تتقدم التربية على التعليم هكذا جزافاً؛ وإنما لأنها ركيزة التعليم فلن يثمر علم لا يقوم على تربية، ولن أسوق أدلة على هذا غير دليل الواقع الذي يشهد بالتقدم الهائل للعلوم إلا أن العالم يعيش الويلات وما ذلك إلا لانفصال العلم عن التربية فانظر للطبيب إذا تشبث بعلومه بمعزل عن أساسيات التربية وكذلك السياسي والاقتصادي وعلى هذا قس كل العلوم.
فالتربية هي خط الدفاع الأول في المجتمعات؛ وكلما ارتفع المستوى فيها ارتفع مستوى الأخلاق والعكس صحيح ، ويتفرع عن التربية عدة مؤسسات لتتصدر المدرسة رأس الهرم من هذه المؤسسات؛ إذ هي البيت الثاني والمكمل الأساسي لدور الأسرة بل إن أثرها قد يفوق أثر الأسرة على النشء في مرحلة معينة، فتجد الناشئ قد بدأ يتأثر بأقرانه وأساتذته ويصقل شخصيته ويتذوق وجوده ويكتشف ذاته، فإن كانت الأسرة هي اللبنة الأولى فإن المدرسة هي اللبنة التي تليها مباشرة.ويبرز دور المدرسة في نقل التراث المعرفي والثقافي وربط الأجيال بماضيها؛ لتكون بذرة الأمل لمستقبل مشرق زاهر، فهم بناة المستقبل وعليهم تنعقد الآمال في الرقي بمجتمعاتهم وأمتهم وبسواعدهم نرجو الخلاص والتحرر من قيود الجهل والتبعية، لذا لا عجب وأن تجد يد التحريف والتبديل قد امتدت لتطال أصولها ابتداء من مناهج ومقررات وانتهاء بقوانين تحكم المعلم والمتعلم على حد سواء.
لا عجب وأن تجد يد التحريف والتبديل قد امتدت لتطال أصولها ابتداء من مناهج ومقررات وانتهاء بقوانين تحكم المعلم والمتعلم على حد سواء
ومن أمثلة التلاعب في مقرراتنا ومناهجنا وضع المادة العلمية التي تخدم أهدافاً تروق لواضعيها فكم من الحقائق التي تغيب عن مناهجنا، إذ إن وجودها يذكي روح الاستقلال والاعتداد بثقافتنا وتاريخنا، فكان الحل لاجتثاث هذه الروح هو تزوير الحقائق تارة وطمسها بتغييبها عن مناهجنا تارة أخرى، ثم تجد بعض المقررات أولتها القوانين من الاهتمام ما يفوق بعض المقررات ذات الأهمية الأكثر، فتجد مثلا مادة التربية الإسلامية قد وضعت من ضمن المقررات الاختيارية التي يستطيع الطالب حذفها في بعض الدول.
ثم انظر للغة الأم -اللغة التي أنزل الله القرآن الكريم بها- كيف تُحارب، فتجد القوانين قد أدخلت لغات أجنبية لتزاحمها في تلك المرحلة العمرية الأهم من حياة الفرد، وكيف أن اللغة العربية عن سبق الإصرار والترصد باتت الهدف الذي تصوب كل السهام إلى كبده، ويتحدث الغزالي عن استهداف اللغة من قِبَل الاستعمار ليمكن لنفسه ويربط الشعوب به مادياً وأدبياً حتى بعد مغادرة جنوده وجيوشه من البلاد قائلا: "ماذا صنع الاستعمار لتحقيق هذه الغاية؟ لقد فرض أولا لغته وجعلها لغة المكاتبات في الدواوين، ولغة الدراسة في جميع المراحل التعليمية، ولغة التخاطب المحترم في البيوت والشوارع، وربما هادن اللهجات المحلية إلى حين، ولكنه يعلن مقته للغة العربية ويتجاوزها في كل محفل، ويؤخر رجالها عن عمد! أما لغة القرآن فهي منبوذة، أو مهملة! وقد نشأ عن ذلك أن المسلم في هذه الأقطار محجوب عن التراث الإسلامي؛ لأنه مدون باللغة العربية، وأنه إذا رأى أن يقرأ شيئاً عن الإسلام فعن طريق الإفك الذي سطره المستشرقون والمبشرون بإحدى اللغتين العالميتين، الانكليزية، أو الفرنسية!! ويا ضيعة الأجيال الجديدة" (محمد الغزالي، الطريق من هنا).
وإذا أتيت على مادة الجغرافية وجدت جرحاً نازفاً وناراً تشتعل في قلبك وروحك، وقد جزأت بلادنا يد الاستعمار سابقاً؛ لترسخ الحدود اليوم في أذهاننا وكأنه واقع علينا قبوله والرضى به والاستسلام لوجوده؛ فنجد مقرراتنا ترسخ الحدود التي ما أنزل الله بها من سلطان لتفرق ما جمعته اللغة والدين، فباتت أمتنا أشلاء ممزقة بعدما كانت الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، هذا غيض من فيض من الألم الذي يستنزف الأمة منذ القدم وكبلتنا يد العجز عن رفضه، بل بات واقعاً نتجرع مرارته من كأس الموت الذي يساق لنا بل نساق له كما الحملان في ليلة الأضحى.
نجد مقرراتنا ترسخ الحدود التي ما أنزل الله بها من سلطان لتفرق ما جمعته اللغة والدين، فباتت أمتنا أشلاء ممزقة بعدما كانت الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى
ثم تفكر وتدبر للقوانين -أو قل لبعضها إن شئت- التي تجرد المربي من حقوقه في التأديب اللازم، بل المبكي أن تجد بعض القائمين على التربية بحاجة لإعادة تأهيل وتربية سواء في المظهر أو الجوهر وذلك لانعدام المعايير الصحيحة في اختيار هؤلاء الزمرة التي تمثل أهم المرابطين على ثغورنا والذين هم من المفروض أن يكونوا قدوة في ملبسهم ومنطقهم أو ليس أبناؤنا بعقولهم وأفكارهم من أهم ثغور الأمة بأسرها، هذا من جانب ومن جانب آخر تجد القوانين التي تعطي قدراً واسعاً من الحرية لهذا النشء، فتجده يتعدى بعضاً من حدود الذوق والأخلاق في تعاملاته بل وتصرفاته دون أن يكون هنالك متسع لردعهم كما يردع الوالد ولده وعليك بالنظر في المشكلات التي تعاني منها مدارسنا لتعلم صدق القول.
إن النهوض بمجتمعاتنا إن كان يتوقف على النهوض بالأسرة أولاً، فلا بد من محاذاته بالنهوض في المدرسة على خط مساو له لا يتخلف عنه قيد أنملة؛ فالأسرة والمدرسة تماما كما جناحي الطير لا بد من سلامة الجناحين ليستطيع التحليق بهما عالياً ، وهذا النهوض لا بد أن يسبقه استصلاح وتقييم في مجالات عدة تبدأ من اختيار المنهج ووضع ما يوافق فكرنا وعقيدتنا ويخدم رسالتنا ويعزز ثقتنا في تاريخنا وثقافتنا، مناهج يقوم عليها أمناء ذوو رسالة لا مستأجرين سلعتهم الدرهم والدينار ما هم إلا أبواق لأصوات وثقافة غربية بحتة، فكم من عالم من المسلمين طويت صفحته عنا وكان له السبق في تأسيس العلوم التي تتناقلها الأجيال حتى يومنا، وما تعلم أجيالنا عنه من بعيد أو قريب كابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم كثر، بل إننا نحن قبل غيرنا من أهال عليهم التراب فكان حالنا كمن استبدل الثرى بالثريا، وكم من مصلح ومفكر وباذل لدمه وروحه لا نعلم عن سيرهم شيئاً، في الوقت الذي تعج به أسواقنا وشوارعنا وبيوتنا ومؤسساتنا بصور اللاعبين والفنانين والسياسيين الذين لمعتهم الثقافة الغربية وصدّرتهم لنا على أنهم الأبطال الأفذاذ.
ثم تأتي أهمية تعزيز دور المعلم والتركيز على دوره ووجوده؛ فهو صاحب رسالة ووريث الأنبياء في حمل رسالة العلم وتبليغها للنساء والتعزيز من دوره بسن القوانين التي تحفظ هيبته وكرامته وتغنيه عن المسألة والعوز.
التربية والتعليم منظومة متكاملة؛ فهي الشراع الذي يوجه مركبنا في سيرنا الدؤوب في هذه الحياة، ولا بد أن يكون هذا الشراع متيناً في وجه التحديات التي نخوضها أفراداً وجماعات حتى نصل إلى بر الأمان، ثم لا بد من تغذية راجعة مستمرة تكون بتفقد هذا الشراع؛ كي لا نضطر ونخوض به البحر ومواجهة أمواجه المتلاطمة بشراع مرقع بال لا هوية له ولا انتماء بلا أصل ولا وجهة محددة بل مهجن من خلفيات ثقافية تستقي من كل فكر وحضارة إلا فكرها وحضارتها.