نداءات كثيرة يتبناها الغرب من باب رفع معنويات الناس وثقتهم بأنفسهم، فترى انتشار بعض تلك العبارات عالمياً والعرب ليسوا استثناءً، ومن أمثال تلك العبارات والأفكار: "أنت تستحق الأفضل"، "أنت جميل كما أنت وتستحق أن تجد الشخص الذي يتقبلك على علاتك!" "لا تتنازل عن الأفضل والأحسن!" إلخ... من العبارات والشعارات التي ملأت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتستخدم هذه العبارات ويتبادلها الناس في سياق العلاقات والوظائف وتحقيق الأحلام الشخصية، فما مدى صوابها؟ وما أضرارها على تفكير الإنسان ونفسيته وعلاقته مع الناس؟ وما أصل هذا التفكير في الإسلام وإلى أي مدى يوافق أو يتعارض معه؟
أولاً/ ما مدى صواب هذه الشعارات؟
جمال هذه العبارات يكمن في رفع ثقة الإنسان بنفسه ومعرفة قيمته، وسواء شئنا الاعتراف بهذا أم أبينا فإن حالات التنمر واستغلال أصحاب القلوب الرقيقة والسذج زاد بصورة غير مبررة أو معقولة، فصار من المنطقي بل والمطلوب المناداة بمعرفة الإنسان لقيمة نفسه وعدم رضاها بالمذلة أو الخيانة أو الإهانة والضرب ، سيما في الزواج والعلاقات الأبوية والأسرية بشكل عام، تجد الكثيرين يبررون للشخص المؤذي أذاه وقسوته بدل معاقبته، وينتهي الأمر أحياناً ليس بتقبل الضحايا للمؤذي وأذاه فحسب، ولكن بإيمانهم أنهم يستحقون ذلك الأذى الممارس عليهم ولا يستحقون معاملة إنسانية حسنة!
ثانياً/ ما هي الأضرار المترتبة على تعلق وإيمان البعض بتلك العبارات؟
كل شيء في إطاره الصحيح مقبول، ولكن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده ، فالمشكلة في إيمان البعض بتلك العبارات هو تصديقهم بأحقيتهم المطلقة لها، سيما وأنها تنادي بشكل مباشر أو غيره بعدم الحاجة للتقويم والتغيير الشخصي، بالإضافة إلى تأكيدها على ضرورة أن يتمسك الإنسان فحسب بالشخص الذي سيتقبله كما هو بعلاته وعيوبه مهما كانت وأيّاً ما كانت؛ وذلك لأنه "جميل ومثالي" في حد ذاته بغض النظر عن أي قصور يمتلكه! وهذا قطعاً فكر غير سوي فلا أحد كامل، والبحث عن الكمال والروعة المطلقة أمر غير منطقي، سيما إذا كنا نتحدث عن شخص فيه من العيوب والقصور ما الله به عليم ويأبى الإصلاح والتغيير، ويرى أن على الجميع أن يحبه ويتقبله كما هو، ومن لا يفعل هذا فلا ريب أن المشكلة عنده هو!وإنما المنطقي والمعقول هو أن يتقبل الإنسان نفسه وهو مدرك لعيوبها حريص على إصلاحها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وإذا ما قرر ذلك الشخص الارتباط حرص على الحصول على شخص فيه من الصفات الحسنة ما يحبها، والعيوب التي يمكنه تقبلها ليتطورا ويرتقيا سوياً، ولكن أن يُعجب الإنسان بنفسه ويراها مستحقة للخير كله، فهذا يزيد من شعوره بالكبر والجحود والطمع لرغبته دوماً في الحصول على المزيد والأفضل من كل شيء، وإن لم يكن مستحقاً له ولم يبذل أي مجهود يُذكر لتحصيله.
ثالثاً/ ما أصل هذا التفكير في الإسلام وإلى أي مدى يتعارض معه؟
يشكل هذا التفكير -وهو أحقية الإنسان في الحصول على الأفضل دوماً، وعدم استحقاقه لحصول أي أمر سيئ وإن صَغُر شأنه- في تولد الشعور بالجحود وعدم الرضا بقضاء الله، والتذمر من الابتلاءات وعدم الصبر عليها، وهذا بدلاً من شكر الله عليها والصبر لنيل الأجر كما أمرنا الله تعالى.
من جهة أخرى، فهذا التفكير يدفع الإنسان للسعي إلى الحصول على الحب بلا حدود ودون إعطاء مقابل، أو -على الأقل- الحرص على التغيير لاستحقاق المحبوب، كما يؤدي للإيمان العميق بأن على المحبوب أن يحب حبيبه كما هو، لكونه جيداً وممتازاً بعيوبه!
ومثل هذا التفكير غير السوي أدى لإعجاب الكثيرين بأنفسهم والتمادي، بل وتجاوز الحدود أحياناً في التعامل مع تلك الناس المعطاءة، والتي تحبهم بلا شروط، ويرى هؤلاء المحبوبين أن حب الآخرين غير المشروط لهم لن يتغير حاله، وإذا تغير المُحب فالخطأ لا ريب منه لا منهم، ويضع هؤلاء من هجرهم من أحبائهم في مصاف الخونة وناكري العشرة، ولا يلتمسون لهم العذر مثلاً فيرون أنهم قد أُرهقوا من أمرهم عُسراً في علاقات لا تعود عليهم ولو بقليل من الحب والعطاء الذي جادوا به.
مثل هذا التفكير غير السوي أدى لإعجاب الكثيرين بأنفسهم والتمادي، بل وتجاوز الحدود أحياناً في التعامل مع تلك الناس المعطاءة، والتي تحبهم بلا شروط
ووجب التوضيح في هذا الجانب أن إسلامنا لا ينادي بالحب غير المشروط والمنقطع النظير، أو الحب من طرف واحد، يحدثنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحكي: "أنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلَمْتَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَعْلِمْهُ، قَالَ: فَلَحِقَهُ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ" (رواه أبو داود).
وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ"، (رواه أبو داود) وكلنا يعرف الموقف العظيم والطريف في آن حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ رضي الله عنه: "يا معاذ والله إني لأحبك" (رواه أبو داود).
فلو أن كبت المشاعر -سيما الحب- أمر محبذ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبته، ولَكَبَته هو بنفسه ولم يُعرب عنه سواء لمن أحبهم من الصحابة أو لزوجاته رضوان الله عليهم أجمعين، فحين سأل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحب الناس إليه أجاب دون أي تردد أو مقدمات باسم زوجته التي أحبها، فقال: عائشة، وفي حبه للسيدة خديجة -رضي الله عنها- يقول: "إني رُزقت حبها" (رواه مسلم).
فالأصل إذن في إسلامنا ليس كتم المشاعر وعدم الحرص عن التعبير والحب في صمت وبلا حدود وبرغم كل الأذى والألم، الحب وُجد في الإسلام ليُسعد ويُنصف كل الأطراف المتحابة، ولكي لا يتحول أطراف الحب من حبيب ومحبوب إلى جان وضحية!
وفي الختام فاحرص -كما علمنا إسلامنا- أن تعرف قدر نفسك وتعطيها حقها، وفي الوقت نفسه لا ترفعها لمكانٍ ومكانة لا تنتمي إليه، وتمنحها قيمة لا تستحقها ، واعلم -كما أخبرنا تعالى- أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإنما نستحق الأحسن والخير ما عملنا الحَسَن والخير، وتعرضنا للابتلاء لا ينفي أحقيتنا للخير فبالصبر والدعاء والتعلم من الابتلاء نكون بهذا قد حصلنا على الأفضل، وصرنا كذلك أفضل بفضل الله والاستعانة به.