ورد عن الإمام مالك قوله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، وكلما تفكرت في حال الأمة التي كانت ذات عز وصولة وجولة المربي فيها رسول الله وقارنت بين حال أولئك الذين كانوا أشتاتاً متفرقين في الجزيرة العربية تكالبت عليهم ظروف المعيشة وقسوة المناخ وأطماع الطامعين وبين ليلة وضحاها أصبحوا كتلة واحدة تماماً كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (صحيح مسلم). تيقنت أن الذي جمع أشتاتهم ووحد قلوبهم وألّف بين أرواحهم شيءٌ يفوق قدرة البشر ويتخطى حدود القرابة والنسب، إنه معين النبوة الذي نهلوا منه ومائدة الرسالة الربانية التي تربوا في ظلالها وآخى بينهم رحم العقيدة وإن تفرقوا في أرحام الأمهات وأصلاب الآباء.
وليس هناك أسوأ حالاً من ظامئ يشرف على الهلاك ظمأً وهو يتوسل قطرة الغيث من الشرق والغرب مع أن النهر العذب بين يديه ومن أمامه لكنه يبصر وبصيرته عليها غشاوة ويعقل لكن أغلال الجاهلية ضربت بسور بينه وبين التفكر بحال السلف الذين لو اقتدى بهم اهتدى.
إن الرعيل الأول ما كانوا ليستطيعوا الائتلاف والاجتماع لو لم يتخلصوا من الأثرة والأنانية بل والنعرات العصبية والقبلية، وما كانوا ليستطيعوا أن يكونوا ذلك الجسد لو لم تندمج أرواحهم إخوة متحابين يمتن الله عليهم بذلك في قرآن ما زال يتلى من السطور والصدور: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
إن الرعيل الأول ما كانوا ليستطيعوا الائتلاف والاجتماع لو لم يتخلصوا من الأثرة والأنانية بل والنعرات العصبية والقبلية، وما كانوا ليستطيعوا أن يكونوا ذلك الجسد لو لم تندمج أرواحهم إخوة متحابين
الأخوة في الله تلك الوشيجة التي أنعم الله علينا بها؛ لتكون من أولى دعائم المجتمع المسلم في المدينة فكانت الخطوة التالية من بناء المسجد، إذ كيف يبنى مسجد روّاده أشتاتا متفرقين، بل إن الإسلام ما قامت له قائمة إلا عندما طهر قلوب القوم، فيؤاخي الرجل من يشاركه الدين الجديد مع أنه غريب نزل في أرضه للتو ويقدمه على أخيه وأبيه ممن يأبى الدخول في هذا الدين، بل إن التأليف بين الأوس والخزرج ما كان ليكون لولا أخوة أقرتها شريعة السماء وكانت الوليدة البكر التي تمخض عنها رحم العقيدة فأصبحت حقيقة يضرب بها الأمثال.
وما هزمنا وتعثرت أحوالنا وتقهقرنا لمؤخرة الركب إلا عندما تعاملنا مع شرائع ديننا كشعارات نرفعها على المنابر وفي مجالس الوعظ وفي التباهي بعزنا المفقود ، حتى إذا نظرت إلى حال الخطيب أو المربي وجدت البوْن شاسعاً بين حاله ومقاله، تحكمه الأنا ويحركه التعصب للآباء والأجداد وإذا ما رأى رؤوساً تحصد ودماء تسفك تحسس رأسه وعصبته وقرابته إذا سلموا فعلى الدنيا السلام، بل تجد من ينظر للأخوة التي أنجبها رحم العقيدة في المدينة المنورة على أنها خاصية في ذاك الزمان وبذاك الجيل، وأنها باتت أثراً بعد عين بل وأنها مرحلة كان لا بد منها في بداية الدعوة الإسلامية ثم نُسخت، ثم يمطرك بفيض من المقارنات بين أخ لك من أمك وأبيك وبين أخيك في وشاج العقيدة والدين.
والمتفكر بواقع الحال يجد أن العلاقات تنبثق من ثلاثة أرحام:
الأول/ رحم الإنسانية والتي يكون بها بني آدم بغض النظر عن جنسهم وثقافتهم وانتمائهم متشاركون في الحد الأدنى من الكرامة التي كرم الله بها بني آدم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70]، ويكفي هذا المخلوق كرامة أنه من خلق الله وفيه نفخة من روحه الجليلة: {إِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]، وبمقدار قرب الإنسان وانسجامه مع أوامر ربه تزداد كرامته والعكس هو الصحيح لدرجة أنه يفقد كرامته فيصبح أقل شأناً وأضل من الأنعام.
بمقدار قرب الإنسان وانسجامه مع أوامر ربه تزداد كرامته والعكس هو الصحيح لدرجة أنه يفقد كرامته فيصبح أقل شأناً وأضل من الأنعام
الثاني/ رحم القرابة؛ فهم ينجبون من رحم أم وصلب أب وما يتفرع عن هذا الرحم من قرابة ونسب، وهذه لها الأولوية في الغرم والغنم، ولا ينكرها عاقل غير أنها قد تصبح صورية خالية من أدنى مشاعر وأقل التزامات إن تنافرت في الدين والمعتقد بل وقد تنتفي بالكلية ليصبحوا أعداء تفرقهم الوجهات متقابلين في فسطاطين، فسطاط الحق وفسطاط الباطل، فيتمثل فيهم قول الله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، بل إن نظام الميراث والذي نسخ على أساس أخوة العقيدة ليستقر بين أخوة الدم ينتفي باختلاف الدين، ويعلق البوطي موضحا: "أما حكمة نسخ التوارث على أساس هذه الأخوة، فيما بعد، فهي أن نظام الميراث الذي استقر أخيراً. إنما هو نفسه قائم على أخوة الإسلام بين المتوارثين، إذ لا توارث بين ذوي دينين مختلفين" (فقه السير).
الثالث/ رحم العقيدة أمتن الأرحام وأشدها صلابة تجمعهم كلمة التوحيد فتتآلف الأرواح وكأنها روح واحدة توزعت على أجساد عدة ، وعلى هذا الرحم قامت قائمة الدين وعلت صهوته وارتفعت رايته، ويتحدث البوطي عن أهمية الإخاء: "إن أية دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة" (فقه السيرة).
ويحضرني في هذا المقام موقفان للرسول الهادي:
الأول/ اختيار أبي بكر ليكون صاحبه في هجرته فآثره في هذه المكرمة على آله وقرابته.
الثاني/ أنّ أحب الناس إليه -صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر الصديق الذي اكتسب لقبه وصفته الصديقية؛ لأنه كان أسبق الناس لتصديقه -صلى الله عليه وسلم- بكل ما يقول من ذوي قرابته الذين سبق البعض منهم بالعداء والضغينة، فقد روي عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه على جيش ذات السلاسل "فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك قال عائشة فقلت من الرجال فقال أبوها قلت ثم من قال عمر بن الخطاب فعد رجالا" (متفق عليه).
وبالتالي للذين دائما ما يضعون أخوة النسب والدم في مقابلة مع أخوة العقيدة والدين وكأنهما ضدان استحال التقاؤهما، لو سألنا أيهما أحب لنفسك عينك اليمين أم الشمال وكذا يداك ورجلاك هل باستطاعته التفرقة، هكذا الأخوة في الله وأخوة النسب صنوان يسند بعضهما البعض، وقديما قالوا رب أخ لك لم تلده أمك غير أنّ هذه الأخوة لا تحل حراما ولا تحرم حلالاً، تماما كما تنتفي أخوة النسب والدم إذا انفصم وشاج العقيدة ورباط الدين، وما يدريك لعل أخو العقيدة يكون جيشك الوحيد والعضد الذي يسندك في سجالات الحق والباطل إذا تخلى عنك القريب وخشي على نفسه تبعات السبيل الذي سلكته واخترته !
ثم تفكر في سيّر الأنبياء والرسل وتأمل الأذية التي احتملوها من الأقارب في مقابل النصر الذي وجدوه عند إخوان وشركاء العقائد، إن العلاقات لا تقاس بالحقيقة والمجاز إلا إذا كانت علاقة وطيدة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولا ثبات لعلاقة إلا إذا استمدت وجودها وديمومتها من الله الذي وضع عنا كل ما من شأنه أن يذكي فينا نار العصبية القبلية العمياء ، وجعلنا إخوة متحابين يظلهم الله ببركاته ورحماته في الأرض وفي ظله يوم العرض، ويضيف البوطي ليبين الأساس الذي يجب أن تقوم عليه صلة الإخاء: "على أن التآخي أيضاً لا بد أن يكون مسبوقا بعقيدة يتم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم خصوصا إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية" (فقه السيرة).
وما تفرقت مجتمعاتنا إلا عندما زادت الأثرة فيهم وأصبحنا كما العصي سهل تكسيرها إذا ما تفرقت، لذا لا عجب وأن تجد يد العبث والاستعمار تعيث بنا فسادا عندما بذرت بيننا بذور الخلاف والشقاق عندما أثارت النعرات العصبية والقبلية بل والمذهبية، فاستطاعت بحدودها وأفكارها أن تفرق بين أخوة العقيدة وتسفك دماءهم على مذبح العصبية القبلية فتفرقنا أشتاتا وأُكلنا كما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
وفي وجود مثل هذه الصلات في حياتنا صلة القرابة وأخوة النسب والدم وصلة الأخوة بالله مدرسة عظيمة نتربى على موائدها على قيم شتى وخصائل جمة ومنها:
أولا/ وجود المرء في ظل عائلة وبين إخوة لم يكونوا من ضمن خياراته واختياراته إنما هذا تربية لنفسه في التعامل معهم بالتراحم والبر فيحسن إليهم وإن أساؤوا، وتهذيب قلبه وربطه على محبتهم ما لم يرتكبوا حراما بل يحرص عليهم وعلى نجاتهم من النار حرصه على نفسه، وشتان بين تعاملك مع من اخترته طواعية وبين من وجدت نفسك مرتبطاً به رحماً وعائلياً لا سيما إذا كان نقيضك في الفكر والمنهج.
ثانياً/ وجود أخوة العقيدة دون أن تجمعك به رابطة نسب أو دم يعوّد نفسك على البذل والإيثار حسبة لوجه الله والتماسا لفضل المحبة والأخوة في الله، فتتربى نفسك على محبة الخير لهم كما تحبه لنفسك .
والحياة رحلة طويلة وسفر شاق فتخيّر لقلبك ونفسك وعقلك من يشد من أزرك ويدلك حاله على ربك ويهون عليك المسير ويطوي عنك بعده ويؤنسك في غربتك دون إفراط ولا تفريط في حق قريب أو بعيد قربته لنفسك وبيتك ولتراع الله في حقوق صلاتك دون أن تجحف بحق أي منها، وليكن عندك قدر من فقه الأولويات حتى لا تقدم النوافل على الفروض حال عجزك عن ضم بعضها لبعض، فلا تعق من لا ينجيك عقوقه في سبيل بر من يمكنك بره في حين آخر، واستعن بالله ولا تعجز واجعل الله قبلة قلبك وروحك وعقلك في كل وجهة تقصدها ودرب تسلكه.