الأسطل: قد يكون سبب الترف وقوع أولئك الدعاة في شَرَكِ أعدائهم؛ كأن تعرض عليهم مناصب في الحكومة، أو وظائف مغرية، فتحملهم المواقع الإدارية، أو الحظوظ الدنيوية، على ما يسمى بالإتيكيت، أو البروتوكول في اللباس، والمكاتب والمراكب، وهيئة الوقوف
الأسطل: الداعية يؤثر بأخلاقه وسلوكه بأكثر ما يؤثر بلسانه وقلمه، ومتى كان مترفاً لم يعد قدوةً، فيزهد الناس في سماعه، إِذْ لو كان صادقاً فيما يدعو إليه؛ لكان أول الملتزمين بما ينصح به، فالانفصام بين القول والعمل يُفقد الوعظَ روحَه
الأسطل: الترف يوهن العزائم عن الصمود أمام مداولة الأيام بين الناس، إذْ ماذا يفعل لو أنَّ الله عزوجل ابتلاه بفقد ماله؛ فهل يلجأ إلى الاحتيال في الاقتراض، أو بأكل أموال الناس بالباطل، وربما اغتنم أعداء الدعوة حاجته لشراء ذمته، فيتحول إلى منافق مدسوس، أو إلى عميل جاسوس
إنّ التّرف إذا تسلّل إلى دعوةٍ ما فإنّه يُهلكها، وهو من أسباب زوال الدعوات وأفولها؛ لأنّ انتشار الترف بين مجموعةٍ من الدعاة يؤدي إلى اتساع انتشاره بين فئاتٍ أُخرى؛ نظراً لحب النفوس لذلك واتخاذ كل فئة لمن قبلها قدوة، مما يؤدي إلى ضعف الأنشطة في البداية نتيجة فتور بعض الدعاة، وبعد ذلك يبدأ تساقط الفاترين مجموعة بعد مجموعة نتيجة الانهماك بزخرف الحياة والتشاغل بزينتها.
فما هي أسباب انشغال بعض المنتسبين للدعوة بالترف؟ وما هو موقف الإسلام من #الترف خاصةً عند الدعاة؟ وكيف يؤثر توجه بعض الدعاة إلى الترف على مسيرة الدعوة خاصةً، وعلى المجتمع عامة؟ وما هو علاج الترف عند الدعاة وكيف يمكن تجاوزه؟
هذه الأسئلة وغيرها، يُجيب عليها الدكتور يونس الأسطل - عضو رابطة علماء فلسطين، وعضو البرلمان الفلسطيني - فإلى نص الحوار:
بصائر: بداية ما هو المقصود بالترف في حياة الدعاة؟
د. يونس الأسطل: بالنظر في الموسوعات اللغوية نجد أن الترفُّه هو الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا من المآكل والمشارب، والمساكن والمراكب، وغير ذلك، مع التوسع فيه، ولذلك فإنّ الترف في حياة الدعاة يعني الزيادة على حدِّ الاعتدال في الاستمتاع بِأَنْعُمِ الله من المتصدرين للدعوة إلى الله تعالى .
والمطلوب هو التوسط في ذلك؛ لأنّ عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً إذا أنفقوا لم يسرفوا، ولم يَقْتُرُوا، وكان بين ذلك قواماً، فلا يجعل أحدهم يده مغلولة إلى عنقه؛ لأن نفسه قد أُحْضِرتُ الشُّح، ولا يبسطها كل البسط من أثر الإسراف، فيقعد ملوماً محسوراً، وإذا كان هذا لسائر المؤمنين، فإن أحقَّ الناس بالتزامه هم الذين جعلهم الله للناس إماماً، لما صبروا، وكانوا بآياته يوقنون.
بصائر: ما هي أسباب انشغال بعض المنتسبين للدعوة بالترف؟
د. يونس الأسطل: يمكن رصد المزيد من الأسباب لتوحُّل بعض المحسوبين على سلك الدعوة في الترف المناقض لجوهر ما يدعون إليه؛ إذْ إن جوهر #الدعوة هو توجيه الناس لمعرفة خالقهم وربِّهم؛ ليطيعوه رغباً ورهباً، ويكونوا له خاشعين؛ ابتغاء مغفرته، ورحمته، وجنته، ورضوانه، وليكون للناس فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، ولن يتحقق ذلك إلا بمجاهدة النفس على التأهب لهذه المهمة دعوة وجهاداً، وهذا يقتضي الحرص على الصحة والعافية، مع حسن السيرة والسريرة، وأن يمتلكوا القمة في الهمة.
ومن تلك الأسباب:
1. ضعف الإيمان الحامل على قمع النفس الأمَّارِة بالسوء؛ فإن النفس كالطفل متى شَبَّ على حُبِّ الرضاع، وإن تفْطُمْه ينفطم، فإذا ضعف #الداعية أمام نفسه تسلَّط عليه قرينه من الشياطين، فأفقده التأثير، حين يقولون ما لا يفعلون، ويخالفون إلى ما ينهون عنه، فيأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم.
2. الغفلة عن كون الدنيا متاعَ الغرور، وأن النعيم المقيم إنما هو في الجنة، فإنها أُكُلُها دائم، وفاكهتها لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولهم فيها من كل الثمرات.
3. وفرة المال المغرية بمحاكاة الأعراف القائمة بين المترفين في التنافس بالفاخر من عُرُوض القُنْية والزينة، ولو مع تلبيس إبليس، حين يُخَيِّل للداعية أنه حينما يكون متشابهاً مع الناس في نمط حياتهم يكون أدعى لاحترامه والاستماع إليه، مع أن الأصل أن يكون غير متشابه مع الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها، أو رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها.
4. وقد يعود السبب في الترفه إلى الغفلة عن الموت، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، مع أن الإنسان مَهْما عُمِّر في الدنيا فليست بالقياس إلى الآخرة إلا عشيةً أو ضحاها، فعلى العاقل أن يكون فيها كأنه غريب، أو عابر سبيل، وليس إلا كراكبٍ استراح بظل شجرةٍ، ثم راح وتركها، أو كدارٍ لها بابان، دخل من الأول وخرج من الثاني دون أن يتوقف.
5. وقد يعود ذلك إلى وقوع أولئك الدعاة في شَرَكِ أعدائهم؛ كأن تعرض عليهم مناصب في الحكومة، أو وظائف مغرية، فتحملهم المواقع الإدارية، أو الحظوظ الدنيوية، على ما يسمى بالإتيكيت، أو البروتوكول في اللباس والرياش، والمكاتب والمراكب، والتردد على المطاعم والفنادق، وما شاكل ذلك، مما يعرف بلقب (البرستيج) حتى في الأحذية، والقرافات، والأزرار، وهيئة الوقوف، والجلوس، والمشي، مما هو من دخول جحر الضب وراء اليهود والنصارى.
بصائر: ما هو موقف الإسلام من الترف، وخاصةً عند الدعاة؟
د. يونس الأسطل: جاء مصطلح الترف ومشتقاته في القرآن الكريم ثماني مرات، ليس فيها موضع مدحٍ أصلاً، وكلها في ذم المترفين، ومن ذلك هذه الآيات الثلاث:
1. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]
2. {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
3. {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 41 : 45].
وقد جاء في آخر سورة هود [الآية 116] أن إهلاك الأمم السابقة كان بسبب أنهم لم يكن فيهم أولو بقيةٍ ينهون عن الفساد في الأرض؛ إلا قليلاً ممن أنجى الله منهم، فقد كانوا متجردين لله، يُبْقون أجورهم لآخرتهم ودار خلودهم، بينما اتَّبع أكثر الأقوام المذكورة ما أُتْرِفوا فيه، وكانوا مجرمين.
وفي السنة النبوية المزيد من النصوص الناعية على المترفين المسرفين الذين بَطِروا معيشتهم، وغَرَّتهم الحياة الدنيا، ومن ذلك هذان الحديثان:
1. حديث عمرو بن عوف -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "...فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" (رواه البخاري).
2. وروي عبد الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلوا واشربوا، والْبسوا وتصدقوا، غير مخيلة ولا سرف" (رواه أحمد).
وقد أضحى من الواضح من جملة هذه النصوص وغيرها أن الترف محرَّم؛ فإنه يورث الفسق المفضي إلى هلاك الأفراد والأمم في الدنيا والآخرة؛ ذلك أن المترفين عندما يشبعون من الحلال تتطلع نفوسهم إلى المزيد والجديد من الشهوات، فلا يجدونها إلا فيما حرَّم الله - عز وجل - فإذا تلطخوا برجسها حقَّ على قراهم القول، فدمَّرها ربهم تدميراً، فكيف لو كان الدعاة فيهم هم المترفون!
ولن يفوتني التذكير بأن الله - تبارك وتعالى - يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده، وأنه جميل يحب الجمال، ولكنه لا يحب المسرفين والمختالين الفخورين.
بصائر: كيف كان يتعامل السلف الصالح مع متع الحياة وملذاتها؟
د. يونس الأسطل: إنّ الاسلام لا يكبت الشهوات، إنما يُنَظِّمها حين تنضبط بما أحلَّ الله، مع شيءٍ من الزهد في الدنيا، ادِّخاراً لمعظم الأجر في الآخرة؛ فقد رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- منطق ثلاثة نفرٍ من أصحابه سألوا عن عبادته في النوافل، فكأنَّهم تَقَالوُّها، فقالوا: هذا نبيٌّ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأعلن الأول أنه سيصوم النهار، ولن يفطر، وقال الثاني: وأنا سأقوم الليل، ولن أنام، بينما رفض الثالث التأهل والزواج، فأعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من رغب عن سنته فليس منه، فإنه يصوم ويفطر، ويقوم ويرقد، ويتزوج النساء، وهذا مظهر وسطية الإسلام.
إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد بكى حتى أخضل لحيته عندما جاءته غنائم البحرين، فلما سُئِل عن ذلك قال: "أخشى أن يكون الله قد مكر بنا، فعجَّل لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا."
ولذلك فقد كان أكثرهم ممن يُؤتي ماله يتزكَّى، وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى، إلا ابتغاء وجه ربِّه الأعلى، بعد أن أيقنوا أنكم لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبون، وأن المتقين في أموالهم حق للسائل والمحروم فضلاً على الزكاة، وهي الحق المعلوم، فآتَوُا المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، زيادة على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
غير أنه ينبغي التفريق بين من كان غنياً، فيظهر أثر نعمة الله عليه، كعثمانَ بنِ عفانَ، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم أجمعين - ومن كان فقيراً كأصحاب الصُّفَّة الذين كانوا يعيشون على الاحتطاب، وما تيسر من الصدقات.
ويجب أن نلاحظ اختلاف الأزمنة والبيئات، ففي حين كان مقبولاً من الخليفة في المدينة أن يرتدي اللباس المرقَّع، وأن يتوسَّد حذاءه تحت شجرة، كان معاوية في أُبَّهة الحكم في الشام، فلما أنكر عليه عمر -رضي الله عنه- أجاب: نحن في قوم لا يصلح لهم إلا هذا، فقال له ابن الخطاب: نُوَلِّيك ما توليت؛ أيْ نترك حسابك لله، فهو الأعلم بصحة ذلك الاجتهاد في الحفاظ على هيبة الإمارة والحكم.
بصائر: كيف يؤثر توجه بعض الدعاة إلى الترف على مسيرة الدعوة خاصة، وعلى المجتمع عامة؟
د. يونس الأسطل: ما من شك في أن ترف بعض الدعاة يؤثر سلباً على مسيرة الدعوة خاصة، وعلى المجتمع عامة ؛ بل إنه يؤخر عودة أمتنا سيرتها الأولى يوم كانت هي الأمةَ الوسطَ الشاهدة على الناس، فكانت خيرَ أمة أُخرجت للناس، وذلك من وجوه عدة، أذكر منها، هذه الخمسة:
1. نظراً لما يحدثه الترف من ضعف الهمة، وإيثار الراحة والدعة؛ فإن الدعوة لا تتوقف عند المستوى الذي وصلت إليه فحسب؛ بل تتقهقر إلى الوراء، وأخشى أن تتوقف بالكلية.
2. إن الحرص على الترف يضيع شطر الوقت في حظوظ النفس، وهذا ينعكس سلباً على استمرار عطاء الداعية؛ بل يؤدي إلى تراجع أهليته ؛ إِذِ الدعوة تحتاج إلى علمٍ وحكمة، والعلم ما لم تعطه كلَّ جهدك لن يعطك شيئاً، فهو بَحْرٌ لا ساحل له، والداعية الذي لا ينمو علمه يتراجع تأثيره؛ إذْ يكون مضطراً أن يكرر نفسه، أو أن ينزوي جزئياً أو كلياً عن التصدر للدعوة.
3. إن الداعية يؤثر بأخلاقه وسلوكه بأكثر ما يؤثر بلسانه وقلمه، ومتى كان مترفاً لم يعد قدوةً، فيزهد الناس في سماعه، إِذْ لو كان صادقاً فيما يدعو إليه؛ لكان أول الملتزمين بما ينصح به، فالانفصام بين القول والعمل يُفقد الوعظَ روحَه، ويؤول إلى عبارات جوفاء، وإلى ضجيج ممجوج، إذْ ما كان من القلب يصل إلى القلب، وما كان من اللسان لا يجاوز الآذان.
4. إن الترف يوهن العزائم عن الصمود أمام مداولة الأيام بين الناس، إذْ ماذا يفعل لو أنَّ الله -عز وجل- ابتلاه بفقد ماله؛ فهل يلجأ إلى الاحتيال في الاقتراض، أو بأكل أموال الناس بالباطل، وربما اغتنم أعداء الدعوة حاجته لشراء ذمته، فيتحول إلى منافق مدسوس، أو إلى عميل جاسوس، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
5. إن المترفين من الدعاة يخافون على فَقْدِ مواقعهم الدعوية، ولذلك فإنهم لن يُفسحوا للأجيال الجديدة والشابة أن تأخذ حقها في المقاعد القيادية ، ولو بـ "الكولسة"، وإجراء انتخابات شكلية، جرى فيها شراء الذمم والولاءات بإغداق الأموال على المُسَحِّجين لضمان الصوت الانتخابي الذي يبقيه في الكرسي، ولو بلغ من الكبر عتياً.
بصائر: ما هو علاج الترف عند الدعاة، وكيف يمكن تجاوزه؟
د. يونس الأسطل: إذا عُرِفَتْ أسباب الترف عند الدعاة فعلاجه في تحاشيها، واتِّقاء الوقوع فيها، ويمكن أن أرصد طائفة من الإجراءات التي تعين على ذلك في خمسة بنود:
1. الحذر من أن يكون التوسع في التمتع مَكْراً من الله بالمترفين؛ لإذهاب طيباتهم في الحياة الدنيا؛ فإن من يريد الحياة الدنيا وزينتها يوفِّي الله لهم أجرهم فيها، وهم فيها لا يُبخسون.
2. الحذر من تقلبات الزمان؛ فإنه لا يدري الفقير متى غِناه، ولا يدري الغنيُّ متى يَعِيل، ولذلك فالواجب الاقتصاد والتوسط في الإنفاق، مع الزهد في الدنيا غاية الإمكان؛ بشرط ألَّا يكون أثراً لِبُخْلٍ في نفسه، ولا يحسبنَّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم؛ بل هو شرٌّ لهم.
3. وعلى الدعاة المترفين أن يتذكروا أن السعادة في الدنيا ليست بجمع المال والتوسع في الحلال، إنما السعادة في التقوى، والاطمئنان إلى معية الله ورضوانه ، كما أن الغِنَى ليس بكثرة عرض الدنيا، إنما هو بغنى النفس، فمتى قنع الإنسان بما قسم الله له كان أغنى الناس، ومتى طمع فلن يسعد؛ لأنه حال ئذٍ يبتغي لهما ثالثاً لو كان له واديان من مالٍ أو ذهب، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
4. وعليهم أن يدركوا أن الدنيا حلالُها حساب، وحرامُها عذاب، وأنه لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أشياء، منها مالُهُ؛ من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وأنه ليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لَبِسَ فأبلى، أو تصدَّق فأبقى، وأن هذه الدنيا التي ليست في الآخرة إلا كيوم، أو بعض يوم، يكفي فيها ما استيسر من النفقة، والآخرة خير وأبقى، وللآخرة خير لك من الأولى.
5. إن الترف لا يليق بالدعاة؛ لتأثيره السلبي على سيرتهم، وإضعاف موضع القدوة منهم، ولأنهم يعلمون أن هذه الدنيا متاع الغرور، ولا تساوي عن الله جناح بعوضة، وما مَثَلُها في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بِمَ ترجع، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان؛ أي الحياة الحقيقية الأبدية، وأن الناس فيها فريقان؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير.
بصائر: ما هي الرسالة التي توجهها للدعاة المترفين؟
د. يونس الأسطل: ما أقول للدعاة المترفين هو أن الأَوْلى بكم أن تخيِّروا أنفسَكم بين أن تريد الحياة الدنيا، ولن تنال منها إلا ما كتب لها، أو أن تريد الآخرة، وحال إذٍ فلْتَسْعَ لها سعيها وهي مؤمنة، ولن يكون هذا مع الترف، فأنتم في حاجة أن تُسخِّروا رؤوس أموالكم في دعم برامج الدعوة، وتأليف القلوب، والسير في الأرض، والارتحال في القرى والمدن، والسفر للقاصي والداني، وكل أولئك يحتاج إلى موازنات مالية كبيرة، فكيف إذا كان المدخل المفضل للنفوس المدعوة أن تبدؤوا بالعمل الخيري والإنمائي في البلاد الفقيرة، فتقيموا المدراس والمشافي، وتشقوا الطرق، وتحفروا الآبار، وتحيوا الأرض وتعمروها؛ لكي يرى الناس أفعالكم قبل أن يسمعوا أقوالكم، ألستم معي في أنَّ ذلك يحتاج أن تنفقوا فيه مالاً لُبَداً؟
ثم أَلَسْنا في مسيس الحاجة أن نملك امبراطورية إعلامية؛ لنصل إلى الناس جميعاً، وأن نخاطبهم بألسنتهم، بل بلغتهم الثقافية، وهذا يعني أننا في حاجة إلى عدد من الجامعات التي تدرس كلَّ اللغات الحية في العالم، مع التخصص في معرفة طبائع الشعوب، وأفضل السبل للتسلل إلى نفوسهم، وقد يكون هذا بالفن المنضبط، والأنشودة المحركة للفطرة، أو العمل المسرحي، وغير ذلك.
وهنا أتساءل عن الزمن الذي يحتاجه إظهار هذا الدين على الدين كله، ولو كره المشركون؟ ألا يحتاج إلى جهد أجيال من الاجتهاد والعمل الدؤوب الذي لا يلين ولا يستكين أمام الكلل والملل، أو العَيِّ واللُّغُوب؟ فهل هناك متسع من الوقت للترفه المفضي إلى الترهل، وضعف الهمة، وقد يورث السِّمْنة والأمراض، وغير ذلك من الأعراض؟
والأهم من ذلك ماذا نقول لربنا يوم الحساب، إذا لم نكن مشفقين من العذاب، ولا خائفين من مقام الله، والوقوف بين يديه، ولا من نارٍ تلظَّى، أو النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة؟ بل هل نتخيل أن سنن التغيير، ومداولة الأيام بين الناس، قد نفاجأ معها بالملوك الجبابرة الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها، وقد يفعلون بنا ما فعل أصحاب الأخدود بإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، أو الذين نُشِروا بالمناشير، أو ما فعلوا بهم في محاكم التفتيش في أوروبا، أو ما يجري اليوم في بورما، وتركستان، وكشمير، بل المحرقة القائمة بيننا في المنقطة العربية، حيثُ تمكن أعداؤنا من أن يجعلوا بأسنا شديداً بيننا، فلا نحن أشداء على الكفار، ولا رحماء بيننا، إنما نحن أذلةٌ على الكافرين، أعزةٌ على المؤمنين!
أليس من الواجب علينا أن نسعى لنعيد أمتنا سيرتها الأولى عبر طيِّ صفحة الحكم الجبري، والتأهب لحقبة الخلافة على منهاج النبوة، ولن يكون هذا إلا بدخول المسجد الأقصى، وتتبير ما علاه بنو إسرائيل من القوة الحامية للفساد، وإيقاد نار الحرب في كثير من البلاد؟
إنه مهما قلت في الجهد التربوي والجهاد التعبوي، والجلاد العسكري، فلن آتيَ على الكثير منه، لكنها الكلمات المعدودات التي تُحَرِّضُنا أن نجعل الدنيا وراءنا ظِهْرِيّاً، وأن نتخذ هذا الترفَ مهجوراً، وأن نتحلَّى بصفات عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وبنعوت المؤمنين المفلحين الذي يرثون الفردوس هم فيها خالدون وهم مكرَمون، وهم الذين أخذوا بالتجارة التي تُنجيهم من عذاب أليم، وبالتجارة التي لن تبور، فإن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، ومن الترف المفضي إلى الفسوق والعصيان، وإلى الغرور والافتتان بزهرة الحياة الدنيا، خاصة إذا أخذت الأرض زخرفها، وازَّيَّنتْ، وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها، وأنها لن تبيد أبداً.