إن من أسوأ ما يمكن أن يُبتلى به الإنسان هو انشغاله بالجدل وابتعاده عن العمل، وما هو أسوأ من ذلك أن ينشغل بالجدل في أمر العاملين وعملهم دون فعل شيء، ودون تقديم حلول ممكنة وتصورات قابلة للتطبيق. كثير من الغارقين في المثاليات غارقون في الوهم لا الحقيقة، حين يجتزئون بتركيز شديد على بعضها دون أخذها من جوانبها كافة، كمن يقرأ المشهد بنظرة قبيلته أو قوميته وجنسيته ومناطقيته وطائفته أو طائفيته، دون أن يلقي بالاً للأبعاد والرواية الأخرى.
أو يقرأ رجلاً وكياناً في مشهد دون مشهد، ومكان وزمان دون آخر، في اجتزاء مقصود لتضليل الناس، وأكثر ما ابتُليت به الأمة اليوم هم الأشخاص الذين يتحدثون من منطق اصطفافاتهم لا بعين تقدير المفسدة من المصلحة، بل بعين مصلحتهم الذاتية، فيقولون ما تقوله عين مكتسباتهم الخاصة.
إن التطرف في معناه البسيط هو «تجاوز حدّ الاعتدال»، ومنه المبالغة في الحكم على الأشياء، وتأويلها تأويلات مفترضة تتجاوز المعنى المباشر والواضح لها، التطرف والتنطع ليس بالضرورة ابتداع شيء جديد فذلك البدعة، إنما يبني المتطرف على حقيقة أو معلومة أو نص واضح، لكنه يغالي في فهمه وتأويله وما إلى ذلك.
ومن ذلك ما نراه اليوم من تلبّس وتلبيس على الناس في أمور دينهم ودنياهم، فترى البعض يذهب بعيداً في حكمه وتعاطيه مع الأمور متجاوزاً التاريخ والوقائع، ليعطي أحكاماً شديدة وحادة، مع تخوين وطعن بدين وأهلية وعقيدة أشخاص وهيئات وكيانات، بناء على موقف أو تصرف أو كلمات قد تكون من باب المجاملات أو المعاملات اليومية، أو ما تتطلبه البروتوكولات والعلاقات بين الدول والمؤسسات والمنظمات.
فيخلط التصرفات والمعاملات السياسية والبروتوكولية بالاعتقادات والمعتقدات الدينية، ويجعل الأولى دليلاً على الثانية، ويجعل ذلك فيصلاً وتحولاً ومساراً وما إلى ذلك، ولو تعامل بالمنطق ذاته مع بقية الكيانات أو الدول التي هو فيها أو ضمنها أو يعمل بها أو من خلالها، لوجد أنه يدين نفسه من رأسه حتى أخمص قدميه.
الازدواجية لصيقة بتفكير أمثال هؤلاء، والمشكلة أن هذه الازدواجية لا تكون أحياناً نتيجة نقص المعلومات أو عجز عن الفهم أو خلل في التفكير، بل انعكاس مآرب ذاتية ضيقة، والمزعج في أمر هؤلاء أن بعضهم لم يعايش ما يعايشه أهل الميدان وأهل العمل، ولم يفكر في متطلبات الميدان، فتقييماته مريحة لا تستشعر أن فيها إدراكاً لتلك التعقيدات الميدانية الحرجة. لسنا في الجنة ولا نعيش بين الملائكة، ولسنا في المدينة الفاضلة، نحن في واقع مليء بالاضطرابات والفتن والصراعات، وليس هناك منزّه أو معصوم من الدول والكيانات، إنما يسدد الإنسان ويقارب ويتحرى طريقه ويسد الثغر الذي هو عليه بكل وسيلة وحيلة، أما الدراويش فعليهم أن يستيقظوا، بل عليهم أن يدركوا قبل ذلك أنهم نائمون وهائمون.
وختاماً، أقول لكل من يحتدّ على العاملين بما استطاعوا من جهد وصدق للأمة ولأوطانهم في هذا الزمن الصعب: «أقلّوا عليهم لا أباً لأبيكم.. من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا»، فمن ينتقد نموذجاً إما أن يأتي بنموذج أفضل منه فيتبعه الناس، أو يدلهم على الحل والطريق الممكن، دونما تصورات هلامية لا علاقة لها بأرض الواقع.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- العرب القطرية