يغلب على الظن السائد أنّ السبيل إلى السلام الداخلي سالم في نفسه بدون أي اضطراب، أو أنه خط مستقيم لا حيود فيه، فتظل نفسيّتك مُستنفَرَة في وضعية "انتظار" دائم، لحلول تلك "اللحظة" النهائية، التي تصل فيها لـمحطة الاستقرار أخيراً، بتحقيق الاتساق الكامل مع النفس، والاستقامة الخالدة على المِلّة، كأنّ الأمر فرقعة إصبع أو تلويح بعصا سحرية! والوضع الطبيعي عند حلول تلك الساعة الميمونة هو شعور المرء المقيم بالانفصام النفسي والنفاق الداخلي، بتعاكس حقيقة حاله مع دعاوى تَديّنه، فلا تجد سبيلاً واقعيًّا لراحة البال إلا أن تتعلم الاتساق مع هذا الانفصام، ثمّ مع الوقت لا تعود تستنكره أو تشعر بأنه انفصام، وبذلك يتحقق لك وَهْمُ الاستقرار طالما لا وسيلة لحقيقته!
سبحان الله! تأمّل الطبيعة حولك، ترى فيها من اليابس واليانع، والهضاب والسهول، والوعورة والسلاسة، والانحناء والاستقامة، ما لا يمتنع معه جميعاً أن تستشعر في لوحتها الكليّة سلاماً وانسجاماً، ليس على الرغم من كل تلك المتناقضات، بل بسبب كل تلك المتمايزات، التي هي في حقيقتها مكوّنات تكاملية، يشدّ بعضها بعضاً.
ذلك أن حقيقة الاستقرار تكمن أولاً في/ توطين النفس على نفسيّة عدم القَرار! ذلك أن النفس المستقرة ليست نفساً راكدة ولا بليدة، وإنما هي كائن حي، وعلامة الحي أن ينبض بالحياة، كل أطياف الحياة، ويعايش بنفسه مختلف أحوال نفسه، في جيشانها وفورتها وتفاعلها مع الحياة، وتكمن ثانياً في/ تقبل طبائع الأشياء والآفاق والنفوس على ما طُبِعَت عليه، والتسليم لله في كونه بما خلق وما أراد، بدل معاكسة الطبائع أو التعامل معها على أنها ألغاز كونية.
ويتحقق الاستقرار ثالثاً/ عندما يَقَر في نفسك أنه لا استقرار "يُنتَظَر" عند محطة ما، وإنما هي حالة تعاش على مدى رحلة العمر، وحين تعيش منتظراً أو متوقعاً أن تستقر نفسياً في مرحلة "ما"، تكون قد حَكمتَ على نفسك بحرمانها الاستقرار فعلياً حتى تصل لتلك المحطة "ما"، التي لا تدري معالمها، بل ولا تبذل تجاهها سبباً حقيقياً، وإنما تكتفي باتخاذها سبباً للنكد في حياتك، بالانتظار اليائس لهبوطها عليك أو حملك إليها بشكل ما!
السبيل للسلام الداخلي والاستقامة الجادّة عارم بالمعارك، وهو قائم على "رحلة عمر" من المجاهدة والمصابرة، وليس "محطة في العمر" تتجاوزها بعد إنهائها لغيرها
والخلاصة أنّ السبيل للسلام الداخلي والاستقامة الجادّة عارم بالمعارك، وهو قائم على "رحلة عمر" من المجاهدة والمصابرة، وليس "محطة في العمر" تتجاوزها بعد إنهائها لغيرها، وإذا كان صلاح البال يعني أن تكون سِلماً في نفسك، وتحقيقه بأن يكون ما تعتقده، وتقوله، وتفعله، في تناغم وانسجام، فذلك لن يتأتى من نهج المحطات في الحياة والتكلف المؤقت والحماسة الخارجية، بل من نهج الرحلة المتصل والعمران المستمر والصدق الداخلي على طول الطريق، وذلك لا على الرغم من التعثر أو الحيود، بل بهما ومعهما.