نعم الله علينا أجلّ من أن تحصى ونحن كبشر فينا ما فينا من ضعف وقصور أقل من أن نحصيه أو أن نثني على الله ونشكره الشكر الذي يوافي هذه النعم، وحسب العبد أنّ الله شرّفه بعبادته فجعل الغاية من خلقه هي عبادة الله في كل أحواله وأطواره لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، فالغاية من وجود هذا الكون وما فيه هي عبادة الله تعالى.
و #الزواج بميثاقه الغليظ فيه من المقاصد الجليلة ما تفيض بها كتب الفقه بل لا يسع عاقل جهلها أو إنكارها، فهو أمر فطري مركوز فينا، كما أنه البذرة التي تتفرع عنها شجرة الإنسانية التي عهد الله إليها بحمل الأمانة الكبرى، والنسل ضرورية من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بتشريعات لتحفظها علينا، فشُرع الزواج ليكون وعاء بقائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالزواج وسيلة من ضمن وسائل أخرى نتعبد فيها لله تعالى.
غير أن محاولة طمس الفطرة وتجاهلها بل ومعاكستها عرّض الزواج للتهاون به وجعل ميثاقه ألعوبة في يد الجهّال أو إنكاره وإنكار حاجة النفس البشرية له تارة أو التشدد فيه وجعله معبوداً يعبد من دون الله تارة أخرى، فتتيه من دونه خطواتنا وتتشتت أنفسنا وتفقد سكينتها وأمنها وسكنها وتضل مساعينا إذا لم يُيسر لنا ولم يكن الخاتم الذي نختم به كتاب حياتنا، بل إن الكتاب هذا سيظل يعاني شبهة النقص إن لم نرزق به مما أشاع بين الناس "ظل راجل ولا ظل حيطة".
وبناء على ذلك، تبع هذا الفهم فهماً مغلوطاً لقيمة الزواج بل والحرص عليه ربما بطرق غير مرضية شرعاً ولا عرفاً، فصار ينظر لمن لم يتزوج وكأنه ناقص أهلية أو كرامة، والإنسان سواء أكان رجلاً أو امرأة إنما يستمد كرامته من الله مباشرة ، فالمرأة كرامتها بداية من الله لا تستمدها من زوج ولا أخ ولا أب، فمثلاً انظر لآسيا امرأة فرعون وتفكر بكرامتها وقدرها عند الله مقابل قدر زوجها، ثم هاك مريم بنت عمران التي اصطفاها الله من بين نساء العالمين لتحمل في أحشائها كلمة الله ورسوله من دون زوج.
مقابل ذلك انظر لزوجتي لوط ونوح -عليهما السلام- ما أغنت نبوة زوجيهما عنهما شيئاً بل حتى ابن نوح الذي هو بضعة منه انتفت الصلة بينه وبين أبيه، فكل ما سبق دليل على أن كرامة المرء وقدره يستمدهما من الله رأساً لا من البشر.
بناء على ما سبق كل إنسان منا عليه أن يعلم أن له نفساً كاملة سوية لا تشوبها شائبة النقص بزواج أم بعدمه وهذه النفس هي مناط مسؤوليته ومطيته التي يسعى بها في دار العمل لتقف في دار الجزاء وتسأل وتحاسب على ما قدمت، والمرأة أو الرجل الذي لا يستمد سكنه النفسي واكتماله من الله فسيظل ناقصاً أعوجاً لأنه يقيم أمر نفسه على فان ومن أقام نفسه على فان تعثرت هذه النفس وسقطت مع أول فرصة غياب أو فناء لهذا الفاني الذي أُقيمت عليه.
والزواج رزق من أنواع الرزق، والرزق بيد الله، والهدي النبوي يرشدنا إلى كيفية طلب الرزق إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم" (رواه ابن ماجه)، ثم فماذا نقول لمن قدر عليه رزقه في هذا الباب أنت ناقص غير كامل ولا تستقيم نفسك إلا بوجود آخر! وما ذنبه عندئذ والأمر ليس من كسب يديه، وهل يعقل أن يظل الأفراد أنصافاً إن لم يتزوجوا؟!
إن النظرة للزواج على أنه غاية لا وسيلة يترتب عليها أموراً تهوي بمجتمعاتنا إلى القاع، منها:
الأول: أن يصبح الزواج مقصوداً لذاته هذا يعني أننا سنهتم بمعايير تضعها أهواءنا ومزاجيتنا بعيدا عن معايير الشرع الذي وضعها فاطر البشر.
الثاني: أن هذا الزواج سرعان ما تنهدم أسسه مع أول عثرة تواجهه في الحياة العملية، لأن الذي يتخذه وسيلة لمقصد أسمى وغاية عظمى سيصبر في دربه على العثرات التي تواجهه في سبيل الغاية التي ما غفل عنها ابتداء، أما من ينظر له على أنه غاية فسيظل في نفسه متأرجحاً إذ كلما واجهته مثلبة أو نقص في شريكه اشرأبت نفسه للتطلع لمن يمتلك مقومات ومواصفات لم تتوفر بشريكه لأنه تعلق بالسبب لا المسبب وبالوسيلة لا الغاية، ومثل هذا قلما يصبر على مكابدة الحياة الجديدة والتزاماتها بالتغاضي حيناً وبالتسليم لحقيقة أن البشر لن يبلغوا الكمال حيناً آخر، وهل ازدياد حالات الطلاق في مجتمعاتنا إلا دليل صارخ على ما سبق!
الثالث: بناء تصورات عن الزواج وأخذها من ثقافات لا تمد لثقافتنا وشريعتنا بصلة، وعادة ما يُصدر لنا عن طريق المسلسلات التي تصور لنا أن الزواج رومانسية وقصص حب وغرام وتنزه ورحلات، وتسليط الضوء على الشهوات واللذائذ بمعزل عن المسؤوليات والواجبات.
وعلى هذا ينبغي النظر للزواج على -قداسته- أنه مرحلة من مراحل الحياة وخطوة من خطوات كثيرة على درب سيرنا إلى الله، فإذا رُزق أحدنا إياه عليه أن يدرك كيف يتعامل مع هذه النعمة والرزق فيشكرهما ويبذل جهده ليقدم أفضل ما عنده بهذه المسؤولية التي أُلقيت على عاتقه، في نفس الوقت إذا تأخر أو حتى لم يتيسر بالكلية على المرء وقتها رجلاً كان أم امرأة ألا يضيع مراحل حياته الأخرى في انتظار شيء وقوعه أو عدمه أمر غيبي فلا هو قادر على تحصيله ولا هو أدى ما عليه من مسؤوليات في الجوانب الأخرى.
والمرء إن لم يكن غنياً وقوياً وعفيفاً بالله وفي الله ولله فإن كل الوسائل لن تحقق فيه ذلك، ومن افتقر إلى غير الله ذل ومن استغنى بغير الله افتقر ومن استقوى بغير الله انكسر، والمرء إذا سكن إلى الله سكنت له الخلائق ولن تكون هناك مودة وألفة وسكن وطمأنينة بين البشر إذا لم يكن الله الغاية لكل منا في كل مراحل حياتنا وخطواتنا .
والكيس من استفاد وعمل بما يملك من أسباب واستغل المقومات التي يملكها بين يديه على وجه الحقيقة فلا ينفق سنوات عمره في انتظار الزواج وكأنه سيمتلك مصباح علاء الدين أو العصا السحرية، إذ لا يدري إن كتب له هذا الأمر أم لا، وإن قُدر وكتب له ربما زاحمته واجبات ومسؤوليات جديدة تلك الواجبات والمسؤوليات التي ادخرها حتى يجد نصفه الآخر بل ربما فقد نصفه الأول في نفس التوقيت الذي وجد نصفه الآخر فيكون خسر كله وهو لا يدري، فلا تشغل نفسك في طلب الوسيلة عن الغاية التي من أجلها خلقت-مع تمام التسليم بأن هذه الوسيلة فطرة الله التي فطر الناس عليها- ولكن الحذر أن تتحول إلى مقصد نضيّع الغاية من أجلها.