بين الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية

الرئيسية » حصاد الفكر » بين الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية
support-arab-spring-suri_njpy35

تُعدُّ السّلطة- والوصول إليها- داخل الدولة فكرة مركزية لأيّ ثورةٍ شعبية، إذ إنها الشرارة القوية ضدّ فشل السّلطة القائمة وفسادها. وما من ثورةٍ إلاّ وتقابلها ثورةٌ مضادّة، تعدُّ المعول الخطير في مقاومة التغيير، وهي من الظواهر السياسية الصّارخة في وجوه القوى الثورية ودعاة الحرّية والديمقراطية، وهي تعمل على عرقلة عجلة التاريخ في تحقيق أشواق الشعوب إلى الإصلاح السياسي والبناء الديمقراطي والوصول إلى صناعة قصص النّجاح في التنمية والنهضة والحضارة.

والحركية القوية للثورة المضادّة تضاعِف من ثمن التغيير، وتزيد في كُلفته الزمنية، وتفوّت فرصًا للانتقال الديمقراطي السّلس؛ إذ إنها تمتلك من أدوات الصّراع والحسم فيه أضعاف ما تملكه #الثورة الشعبية، إذ إنها تملك القوّة المؤسساتية ووسائل الدولة في الجيش والقضاء والإدارة والمال والإعلام وحتى الغطاء الخارجي.. ما يجعلها أعتى من القوى الثورية، التي تفشل في الغالب في الوصول بسرعةٍ إلى السلطة والسيطرة على تلك المؤسّسات أو إنشاء مؤسسات موازية قوية وبديلة.

وتكون فرصة الثورة المضادّة في النّجاح أقوى عندما تكون هذه الثورات الشّعبية غير منظّمة، فتنتهي غالبًا بانقسامات حادّةٍ أو باستنساخ ديكتاتورياتٍ جديدة، إذ إنّها تفتقد التكامل بين المشروع الجذّاب والقيادة الجريئة والوعي الجماهيريّ الممتدّ، وتزيد عليها تلك السّذاجة الشّعبية العامّة بالانخداع بما تقوم به الجيوش وما تملكه من العاطفة لها والخوف منها والطمع فيها، إذ تتبنّى في ظاهرها مطالب الثورات الشعبية كما حدث في بعض البلدان العربية، ثم تقوم بالالتفاف عليها، عن طريق الاستعجال في اختزال الثورة الحضارية إلى مجرد ثورةٍ انتخابية، عبر انتخاباتٍ متحكّمٍ فيها، لا تُنتج إلا مسخًا جديدًا من النظام القديم ولو بوجوهٍ جديدة، مع بعض التحسينات الإجرائية التي لا ترقى إلى الطموحات الفعلية والأهداف السياسية الحقيقية للثورة، وسيكون المبرّر القوي أنّ هذا التغيير يجب أن يكون عقلانيا وواقعيًّا، وأن يكون مرحليًّا ومتدرجًا، وأنّ يوازن بين الحرية والديمقراطية وبين الأمن والاستقرار، لأنّ الثورة عمليةٌ تاريخية ولها مراحل، وتتطور وفقًا لعناصر القوة لدى الطرفين.

عندما تنعدم الثقة ويغيب الحوار الحقيقي والتوافق الوطني الجاد بين السلطة والقوى الثورية في مراحل الانتقال الديمقراطي، فإنّ من أخطر ما يهدّد الدولة هو الانقسام المجتمعي بسبب الخلاف عن التوقيت الزمني في الانتقال من الثورة إلى الدولة عبر الانتخابات، فيوضع مصير الوطن على كفّ عفريت الانقسام الحدّي بين احتكار الشرعية الثورية في الشّارع والغرور بالشرعية الانتخابية الجديدة في السلطة، فنجد أنفسنا أمام معادلةٍ هجينة: نصفها ثورة ونصفها ديمقراطية.

ذلك أنّ العبرة ليست في مجرد القيام بالثورة أو بمجرد إجراء الانتخابات بقدر ما هي العبرة بما بعدها من النتائج والمآلات، وأنّ بين الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية استحقاقاتٍ وطنية وجماعية لا يمكن الهروبُ منها، مثل حقيقة الحرّيات فهمًا وسلوكًا من الجميع، ومكسب الديمقراطية الفعلية المترجِمة لإرادة الشعوب، وتحقيق التنمية وأثرها في الحياة اليومية للمواطن.

إنّ الفشل في هذه الاستحقاقات الثلاثة (الحرّية والديمقراطية والتنمية) كقيمٍ ومُثُل عالية لن تشفع لأصحاب الشرعية الثورية ولا لأصحاب الشرعية الانتخابية إن لم تُترجَم كأثرٍ للإنجاز الملموس.

قد يكون إشعال الثورات الشعبية سهلاً، ولكنّ استحقاق بناء الدولة صعبٌ، وعندما تغيب وَحدة القيادة ووَحدة المشروع السياسي للثورة والسّلطة، فإنّ مأزقًا خطيرًا بين الشرعيتين يرعب الجميع، وستكون المؤسسات العسكرية- وهي التي تمتلك شرعية استعمال القوّة- هي العامل المرجّح لصالح الشرعية الثورية أو لصالح الشرعية الانتخابية، ولن يكون المُخرَج للوطن إلا انعكاسًا لمستوى العقل السياسي والعسكري لقيادة الجيش إيجابًا أو سلبًا. ما كان للشعوب العربية أن تقع تحت رحمة الديمقراطية العسكرية بعد الثورات الشّعبية إلاّ لسببين رئيسيين هما:

1- غياب العقل القيادي الموحّد للثورة: إذ إنّ هذه الثورات أخذت بُعدًا شعبيًّا وجماهيريًّا هادِرًا، نحَت في عمومها نحو رفض المنظومة السّياسية والحزبية القديمة (أو هكذا أُريد لها)، وفي نفس الوقت عجزت عن صناعة رموز قيادية جديدة وبديلة تؤثّر وتؤطّر وتوجّه حركة الجماهير، ما أفرز أمامها تعدُّدَ القيادات والمشاريع وصلت إلى حدّ الاستقطاب والتناقض، وهو ما ينشّط التصادم القوي بين الثورة والثورة المضادة.

2- الاختلاف في الرؤية والمشروع السياسي البديل للنظام: فقد تتفق القوى الثورية حول الهدف العامّ وهو إسقاط النظام، ولكنها تختلف في ما بعده، فتختلف حول الدور السياسي للجيش، وحول أبعاد الهوية، وحول ذهاب رموز النظام، وحول حملة مكافحة الفساد، وحول الحوار والإصلاحات، وحول الإطار الزماني والقانوني للانتخابات، وحول مُخرجات هذه المرحلة الانتقالية. وهو ما يبقي الجدل قائمًا حول نهاية مرحلة الشرعية الثورية وتوقيف الحَراك الشعبي لعجزه عن تحقيق مطالبه وتفريغه من موضوعه ومضمونه، وبين بداية مرحلة الشرعية الانتخابية والاستمرار في الحل الديمقراطي المؤسساتي والدستوري، ولو كان مطعونًا في شرعيته ومخدوشًا في مشروعيته، فلا مرحلة الشرعية الثورية انتهت ولا مرحلة الشرعية الانتخابية بدأت، لأنّ المطالب السياسية والأساسية للحَراك الشعبي لم تتحقّق كاملة، وهناك شعورٌ عامّ بأنّ النظام السياسي لم يقم إلاّ بمجرد تغيير جِلده، بتغلّب جناح على جناح منه فقط، فلا تزال نفس الذهنيات ونفس الأساليب ونفس الأشخاص، وذلك لعدّة مؤشرات حقيقية تفضحه، منها:

– أزمة الشّرعية السياسية: مهما حاولوا ترقيعها بانتخاباتٍ متحكّمٍ فيها، ومما يدلل عليها هو ضعفُ المشاركة الشعبية والانقسام المجتمعي الخطير حولها، رغم أنّها كانت بضمانات المؤسسة العسكرية، وأنها أوّلُ استحقاق انتخابي بعد الحَراك الشعبي.

– أزمة حرّية الرّأي والإعلام واعتماد الأحزاب والجمعيات.

– أزمة استقلالية القضاء وشفافية المحاكمات وخلفية الاعتقالات ومصداقية مكافحة الفساد.

– أزمة الرؤية السياسية والاقتصادية للسلطة الجديدة، ومدى تناغمها مع احتياجات وأولويات وتحدّيات المرحلة، بالرغم من حدّة الأزمة المالية ومخاطر الأزمة الاقتصادية وتهديدات الجبهة الاجتماعية وإكراهات التوترات الإقليمية والدولية.

– أزمة القاعدة السياسية والوسائط الحزبية والمجتمعية للسلطة الجديدة.

وعليه، لابدّ من تصالحٍ حقيقي وحتمي بين أصحاب الشرعية الثورية وأصحاب الشرعية الانتخابية، فيبقى الحراك الشعبي السلمي يمارس وظيفته في المرافقة والضغط من أجل استكمال باقي المطالب السياسية والأساسية، وأن يتّسم بنوعٍ من العقلانية والواقعية في الانتقال من الشعارات إلى الإجراءات، واليقين من أنّ الثورة أو الانتخابات ليست أهدافًا لذاتها، بل هي أدواتٌ في التدافع والتنافس من أجل الحرية والديمقراطية والتنمية.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • الشروق الجزائرية
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …