مهما صَعِد الشّاب في سُلّم المجد وارتقى في درجات العلم والعمل، ومهما غَرَف من نهر الدنيا ونال من حظوظها، فإنّه يبقى فقيراً إلى تحقيق حلم عظيم، ألا وهو حلم الأبوّة، والفتاة تلك الأخرى، لا تُغنيها الشهادات ولا المكانات ما لم تَهتبل فرصة الزواج وتحقق حلمها الفطري الذي يدغدغ حياتها، ألا وهو حلم الأُمومة.
ومهما هُوّلت سيّئات الزواج ودعا مبغضوه إلى اتّقائه أو تأخيره؛ بزعم أنّه لعنةٌ من الصعب أن ينجو منها أحد، حتى بلغ الأمرُ بالشاعر «أبو العلاء المعري» الذي عدّ الزواج جنايةً على الأولاد، وجعل من تلك الفكرة أساساً بنى عليه طرفاً من فلسفته، أن أوصى بأن يُكتبَ على شاهد قبره هذا البيت:
هذا جَناهُ أبي عليَّ وما جَنيتُ على أحد
رغم ذلك كلّه، فإن الزواج يبقى سيّد أحلام النفس، ومبعث سَكَنها واستقرارها بدليل قوله تعالى: {ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
إلا أنّ أشواكاً تعترض السائرين بهذا الحلم فتدمي في أكثر الحالات أرجلَهم، أبرزها:
• تَوفّر السّبل الخلفية لتحقيق المتعة: وما أكثرَها اليوم، وما أقلَّ حملَها وتبعاتها على عواتق الشباب! وهذا يعود لعدم انضباط الأسرة بضوابط الشرع، حتى يصل الأمر في كثير من الأحيان أن يتغاضى الوالدان عن شرود الشاب في هذا الطريق، وكأنّ الرسالة هي: "تسلّ إلى أنْ يحينَ وقت زواجك" وهذا تحريض قد يسمعه من والديه صراحة!
وهي في الحقيقة دعوة من طريق آخر لفريق من الفتيات اللائي يشاركن هذا النوع من الشباب إلى التسلية والانحراف.
وزوال هذه العثرة من الطريق: أن تصطبغ الأسرة المسلمة بتقوى الله تعالى، التي جاء بها الأمرُ الإلهي في بيان نِعَمِ الخَلق والتزاوج، في أوّل سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] • الانتهاء من الدراسة الجامعية أو العليا، و شراء البيت الفاره والمركبة الفخمة كشروط مسبقة للزواج: لا ضير في رغبات مباحة تحاكي طموحات الشاب بالاستعداد للزواج، لكن المعضلة أنّ الشاب يريد أن يحقق أحلامه دفعةً واحدة، من اقتناء بيت ومركبة ومرّتب عالٍ، كشروط للزواج، ثم تمضي الأيام والسنوات، وهو في صراع تحقيق المكاسب، وقد لا يتحقق جزء منها، فيعود يرضى بالأقل وقد تجاوزه الرّكب!
وهذا من الخطأ بمكان، فكم من شاب تزوج في بيت أهله ثم بعد مدّة خرج إلى منزل جديد، وازداد دخلُه، فاقتنى المركبة وغيرها، وتفتّحت له نِعَمٌ أخرى! ومناط ذلك كلّه مع السعي والأخذ بالأسباب واقتحام الحياة هو التوكل على الله تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
ثم إنّ الفقر لا يبقى، بل يزول مع هذه الأسباب، بوعد الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
وقد بَشّر نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ثلاثةٌ حقّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف" [الترمذي:6155].
• الخوف من تحمّل المسؤولية: يقول الأديب الكبير الرافعي -رحمه الله- في كتابه (من وحي القلم) مخاطباً الشاب الذي خاف من الزواج فهرب منه: «جئتَ من الحياة بأشياء ليس فيها حياة، فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت منها، وانهزمت عن ملاقاتها، ثم أنت تأمل جائزة النصر على هزيمة... إن صليت ألفي ألف ركعة من الفريضة ومثلها من النوافل لخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صُلبك أعضاء تركع وتسجد!»
لا يخفى على أحّد أنّ الزواج وما يتبعه من تربية الأولاد من أشقّ أنواع المسؤولية، ولا يستيطعه الأنانيون الضعفاء، وما منعُ النسل أو تعاطي (حبوب) منع الحمل إلا برهانٌ على مدى العجز عن تحمل تلك المسؤولية، وعلى قدر هذه المشقة يكون الأجرُ والجزاء، فللزوج فوق زينة الدنيا (الأولاد) أجرَان؛ أجرٌ في النكاح وأجرٌ في التربية الصالحة التي تمتد أثارها إلى ما بعد الموت، فقد جاء في الصحيح: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأناسٍ فقراء: "وفي بضْع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" [مسلم:2373].
وجاء في الصحيح: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" [مسلم:3169].
وكان عبد الله بن المبارك يقول لإخوانه وهو في الغزو: «أتعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك! قال: أنا أعلم! قالوا: فما هو؟ قال: رجل متعففٌ على فقره، ذو عائلة، قد قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نياماً متكشّفين فسترهم، وغطّاهم بثوبه، فعمله أفضل ممّا نحن فيه».
• الإنصات للمرجفين الذين أبهرتهم عادات الغرب، والذين وجدوا حَرجاً من أن يدعوا إلى العزوف عن الزواج إلى سُبل الحرام الأخرى، فشنّعوا -ومعهم مؤسسات مدنية- التبكير في الزواج، وما يجرّه من أمراض صحية وفقْدٍ لفرص التعليم ونحو ذلك، والمطلوب ليس الزواج بعد سنّ الثامنة عشر، بل الزواج بعد سنٍّ مديدة، يتْرَعُ فيها الشاب ما استطاع من اللذة المحرّمة! وإن كانوا على حقّ في جانب الاضطرار الذي رعاه الديّن الإسلامي، بل وعدّ حفظ النفس واحداً من كلياته الرئيسة، فهم على ريب في جوانب أخرى من هذه الدعوة، تتلخص بمحاولة نقض نسيج الأسرة المسلمة!
• الفشل العاطفي: والمقصود هنا أن يمرّ الشاب بعلاقة أو تجربة حبّ مع فتاة ثم تنتهي بالفشل، من مثل أن تتزوج هي وتتركه، مما يسبب ذلك في نفسه نكسةً نفسية، قد تشيح بوجهه عن الزواج كليّاً.
وهذا من العجز الذي لا يليق بشابٍّ آمن بالقضاء والقدر، أن يركن لمشاعر الإحباط حدًّا يتعثّر معه ولا يقوم! وكم من حالة زواج فاشل بنيت على علاقة حبٍّ سابقة!
وزوال هذه العقبة أن يرضى الشاب من منطلق جهله بعلم الغيب، وجهله بالفتاة التي سيسعد معها، متزوداً ببلسم قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وبهذا تزول من الطريق تلك الأشواك الدامية، ولا يبقى للشاب حُجّةٌ في أن يمرّ بهذه الحياة رقماً من الأرقام، تفزعه الأوهام عمراً مديداً فلا يبلغ رُتبة الأب!