حياة الإنسان معادلات صعبة، وقد يستحيل في بعض الأحيان التوفيق فيما بينها، إلا أنه من الضروري البحث في كيفية التوفيق فيما بينها، وفيما تتضمنه من مهام وفق جدول من الأولويات، سواء بحسب الإلحاح الزمني أو الأولوية الموضوعية، ووفق قائمة سليمة من الموارد المطلوبة.
هذا هو المُدرَك الأساسي الذي ينبغي لأي إنسان سويٍّ رشيد أن يستوعبه عندما يخوض غمار الحياة ومتطلباتها، ويبغي تحقيق النجاح فيها.
فحياة الإنسان أقرب إلى لوحة معقدة؛ هناك الكثير من التكوينات فيها، والتي يجب أن نسعى إلى أن تنسجم وتتوازن في مقاييسها مع بعضها البعض، وفيها خطوط وهياكل يجب أن تُرسَم قبل خطوط وهياكل أخرى، وطبقات ألوان، توضع فوق بعضها البعض.
ووفق ما يعرفه محترفو الرسم وفنون التشكيل المختلفة؛ فإن أي خطأ أو خلل في ترتيب المُكوِّنات البصرية للعمل؛ يتلِف كل ما فعله الإنسان، وقد يفسِد اللوحة بالكامل، فقط الفنان المحترف هو القادر، وبصعوبة بالغة على التصحيح الهيكلي واللوني للوحته.
ولكنَّنا لسنا –في الغالب– هذا الفنان، كُلُّنا لسنا -في الواقع- هذا الفنان، ولذلك ينبغي لنا أن نكون في حالة من التركيز والحرص في حِراكنا في هذه الحياة.
إذاً فحياة الإنسان، بمختلف مجالاتها الزمنية، اليومية وقريبة المدى، أو سياقاتها بشكل عام على مدار حياته هي عبارة عن تجميع لمكوِّنات عديدة، في دوائر عديدة، ويتحقق النجاح للإنسان، النجاح الجزئي والعام، إذا ما أجاد الترتيب، وإذا ما أخذ بصحيح الأسباب بحسب طبيعة الموقف أو المهمة التي يواجهها .
الأمر أشبه بلعبة "البازِل" المعقدة التي تتطلب عقلية متطورة لتركيبها، عقلية تجيد رسم الصورة الكُلِّيَّة المطلوب تركيبها في الخيال، وتصوُّر مكان كل جزءٍ منها في اللوحة الكبيرة؛ فقضية الترتيب هنا مركزية، أي مهمة كما تقدَّم.
والتخطيط طويل المدى مطلوب بدوره، ولكنه أمر مختلف عن سلبية مُعينة لدى البعض، وهي النظر والتعامل مع المهام الكبرى بصورة كُلِّيَّة، هذه لن تتحقق لو نظر لها الإنسان بشكل كُلِّيٍّ؛ لأنه في حينه سوف تشعر بوطأتها وثقلها على نفسه، وسوف يظن أنها مستحيلة التنفيذ، فينصرف عنها.
ومع تكرار ذلك فإن الإنسان لا يتطوَّر كثيراً في حياته؛ لأن ما يتطور بالإنسان في الدنيا، هو الأمور الشاقة الكبيرة والمعقدة فحسب.
والتعامُل مع مثل هذه النوعية من المهام، يجب أن يؤدى بدوره بأسلوب "البازِل" بالضبط.
فيعمل الإنسان على تفكيكها إلى مهام جزئية بسيطة -بسيطة بشكل موضوعي، وبسيطة على النفس وعلى قدرات الإنسان في المجالَيْن المادي والمعنوي، في آنٍ- ثم يعمد إلى تجميع كل جزءٍ وفق خطة مرحلية، بجانب الآخر، حتى يصل إلى مرحلة التمام النهائي للمهمة الكبرى.
هنا يلعب قانون "التراكم" الدور الأكبر في تحقيق الهدف، مع الوضع في الاعتبار أن عملية التجميع هذه تتطلب إجراءات إضافية على ما هو مطلوب إزاء كل مهمة من مهامنا الصغيرة التي فككت المهمة الكبرى إليها؛ لتحقيق قانون آخر مهم في الإدارة، وهو أن "الكل أكبر من مجموع أجزائه".
والمراكمة بهذا المعنى، هي سُنَّة عمرانية، وأساس الحضارات الراسخة في مجرى الزمن، والخالدة في ضمير الإنسانية؛ لأن منجزاتها الضخمة التي تتوارثها الأجيال التالية، والإنسانية بأسرها، إنما لا تتم بين يوم وليلة، وإنما تتم جزءاً جزءاً، وبشكل تدريجي، وعلى المدى البعيد نقف أمام شوامخ تتحدى الزمن، سواء في مجال البناء والتشييد، أو في مجال العلوم، وفي مجالات الإبداع الإنساني كافة.
المراكمة هي سُنَّة عمرانية، وأساس الحضارات الراسخة في مجرى الزمن، والخالدة في ضمير الإنسانية؛ لأن منجزاتها الضخمة التي تتوارثها الأجيال التالية، والإنسانية بأسرها، إنما لا تتم بين يوم وليلة، وإنما تتم جزءاً جزءاً، وبشكل تدريجي
ثم يجب الانتباه إلى أن هذه العملية مستمرة، بل يجب أن يعلم الإنسان ويوقِر في عقله ونفسه أنها سوف تستمر معه حتى الممات، هذا لو أراد أن يعيش إنساناً حرّاً ناجحاً وذا كرامة، إنساناً يضيف كل يومٍ في حياته إليه شيئاً ما مهمّاً.
وهذا الحديث ليس فلسفيَّ النزعة؛ فهو في صميم علوم الإدارة الحديثة التي تستند إلى قيمة التخطيط، ولا تنهض المجتمعات والأمم إلا بها.
والعالم -بالذات في هذه المرحلة التي تعقدت فيها صور الحياة الإنسانية كافة، مرحلة سطوة العقل والمادة والعلم- لا مجال فيه للارتجالية أو العشوائية؛فكل حدث، وكل تحرُّك للإنسان، على مختلف المستويات -بدءاً من السياقات اليومية وصولاً إلى مستوى كل مرحلة عمرية- هو بحاجة إلى تخطيط وإدارة وتدقيق في كل شيء، ولو أراد الإنسان أن يحيا حياةً عادية .
وتكتسب هذه الأمور أهمية بالذات لو كانت ظروف الإنسان دقيقة وموارده محدودة، أو يدير بعض الأمور في إطار من المحددات والشروط ذات الطبيعة الصعبة أو فيها جانب من المخاطرة، فهذه لو جرى التحرُّك فيها في سياق عشوائي من دون تخطيط ارتجالاً سوف يكون الفشل -وربما الهلاك في بعض الحالات- هو المصير.
وصور الفشل عديدة، بدءاً من هدر الموارد وصولاً لضياع العمر ذاته من دون أي إنجاز أو تقدُّم من أي نوع.
وفي الجانب الفلسفي للأمور، وقتها سوف يكون الإنسان الذي غابت عنه هذه الحقائق، قد عاش حياة أقرب لحياة البهيمية، أكل وشُرْب وكفى، بينما الهدفية والسعي السديد يجعلانك أقرب إلى طبيعتك كإنسان.
فهذه من أهم اشتراطات وعوامل نجاح أي تحرُّك، ولا يمكنك بحال التقدُّم في معاركك من دون تأمين جبهاتك الداخلية.
وهذا نجده في السياسة العالمية، فبعض الدول متوسطة القوة يمكنها الصمود والتصدِّي لأوضاع صعبة؛ لأن جبهتها الداخلية مؤمَّنة، وعلى المستوى الشخصي -وعن تجربة- فإن هذا المبدأ من الأهمية بمكان اتباعه قبل خوض أي التزام في حياة الإنسان.
والعكس صحيح، فقد تكون تملك عوامل قوة كبيرة، ولكن جبهتك الداخلية مفككة، وأرضيتك غير صلْبَة؛ فتُهزَم.
ونختم هذه المجموعة من النصائح التي هي بحاجة إلى قراءات مُوسَّعة في مجالات عدة، أهمها الإدارة والسلوك والتنمية البشرية، بنصيحة على أكبر قدر من الأهمية، وتصلح لمختلف المجالات، السياسية والاجتماعية، الفردية والجماعية، على حد سواء، وهي أن الأسوأ من القرارات والموقف الخاطئة أو على أقل تقدير القرارات والمواقف التي لها آثار سلبية، هو الاستغراق فيها، والإصرار عليها من دون ما يُعرَف في العلوم الإستراتيجية بالوقفة التعبوية، والتي ترمي إلى تدقيق وتقييم للموازنة بين الآثار السلبية لهذه القرارات والمواقف وبين الآثار السلبية للبدائل التي قد تكون لها خسائر حقيقةً، ولكنها أقل وطأة في هذه الخسائر.
وقد يكون التعلل بالاضطرار مقبولاً، ولو في الجانب الشرعي، ولكنه لا يعني التكلُّس وعدم تقييم الموقف بشكل شامل ، وهو مبدأ أساسي في الإدارة والسياسة والاجتماع -كلٌّ في مجاله- فقد تكون راغباً في الحفاظ على مكاسب معينة، أو تأييد أطراف بعينها، ولكن ذلك قد يقودك لخسائر في مساحات أخرى، على الأقل يجب أن تقف وتحسب هذا وذاك، ثم تقرر بعد ذلك.
لكن التمادي في قرارات ومواقف أثبتت الحوادث أنها ذات تأثيرات سلبية، ومن دون هذه الخطوة، فهذا خطأ قد يرقى إلى مستوى الجريمة لو ارتبط الأمر بموقف مصيري!