واستورد المسلمون مبدأ المساواة ذلك في مرجعيتهم، باعتباره موافقاً لأفهام سطحية لبعض الآيات والأحاديث، مع أنها لا تشير حقيقة للمساواة بالتصور الأجنبي، وإنما تشير لرفع الظلم وضمان عدم الجَوْر بين الناس على تفاوتهم، وفق الحقوق التي رتبها الشارع لكلٍّ بحسب خِلقته وحاله ومسؤولياته، والتكليف الذي قام عليه وفق طاقته وقدراته، فإذا كان بين الناس تفاوت مقدور في الطاقات والتكليف والحساب، فمنطق الحق العدل يجري بأن تختلف بينهم كذلك توزيعات الحقوق والأدوار ، بما يعين كُلّاً في سياقه المراد به من ربه، فالقانون الشرعيّ هو العدل والإنصاف مع إقرار وإحقاق التفاوت اللازم بين البشر، لا طمس معالم التفاوت والاختلاف بين البشر بالتسوية العمياء ومنع تمايز المراتب والحظوظ، وبين المفهومين فرق شاسع في الأصل والتطبيق.
استورد المسلمون مبدأ المساواة ذلك في مرجعيتهم، باعتباره موافقاً لأفهام سطحية لبعض الآيات والأحاديث، مع أنها لا تشير حقيقة للمساواة بالتصور الأجنبي
وفي ضوء ما سبق بيانه حتى الآن، ينبغي ألا يقع عند المسلم استشكال الجمع بين: سواسية الناس في كونهم محاسبين أمام الله في الآخرة على أساس كَسبيّ من التقوى والإيمان، وتفاضلهم في المراتب والمنازل في الدنيا على أساس وَهبِيّ مما خصَّ الله به تعالى فئة أو جنساً، فالله تعالى قدَّر من عنده رُتَباً ودرجات تفاضل بين "مجموع" الناس في ميزان الدنيا: كفضل بني إسحاق (بني إسرائيل) على غيرهم من العَجَم في زمانهم لما فيهم مِنَ النُّبوة والكتاب، وفضل جنس العرب على جنس العجم، وفضل قريش على قبائل العرب، وفضل بني هاشم على قريش، وفضل جنس الذكر على الأنثى، وفضل مقام الزوج على الزوجة، وفضل برّ الأمهات على برّ الآباء... إلخ، وذلك لا يعارض أنّ التفاضل بين "أفراد" الناس في ميزان الله الأخروي يكون بالتقوى والإيمان: فالمرأة التقيّة خير في ميزان الله من الرجل الفاجر، والأعجميّ المسلم خير في ميزان الله من العربي الكافر، وهكذا، وذلك التفاضل الذي رتّبه الله تعالى بين عباده قد بيّن لنا حكمته أحياناً دون أحيان، لكن ذلك لا ينبغي أن يؤثر على تَقبُّل العباد له بسلامة صدر ودون ضغائن؛ لأنه مقدّر من ربهم الذي خلقهم كيف يريد بهم ومنهم، وهَيّأ كلّاً لما خُلق له دون بخس أو نقصان، فكله من مشكاة واحدة وإلى مَرَدٍّ واحد.
ينبغي ألا يقع عند المسلم استشكال الجمع بين: سواسية الناس في كونهم محاسبين أمام الله في الآخرة على أساس كَسبيّ من التقوى والإيمان، وتفاضلهم في المراتب والمنازل في الدنيا على أساس وَهبِيّ مما خصَّ الله به تعالى فئة أو جنساً
وينعكس أثر هذا التفاضل في طبائع الأدوار وأحكام المعاملات بين البشر في الدنيا: كإعلاء شأن برّ الأم من جهة الأبناء، وإعلاء شأن طاعة الزوج ورضاه من جهة الزوجة، وتوقير العجم للسان العربي وتاريخ العرب... إلخ، لكن يجب التفرقة بين أحكام الشرع في المعاملات بناء على تلك المفاضلات، وصور التفضيل الجائرة –وربما المخالفة شرعاً- الواقعة من الناس عند التطبيق، وإن تحت مُسمّى الشرع! كظلم البنات وبخسهنّ حقوقهن بدعوى فضل الأولاد عليهن، أو تعميم قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" في كل أنواع العطايا، مع أنّ قسمة نصيب الميراث غير الهدية وغير النفقة الواجبة أو العطيّة للحاجة، فمنها ما يُساوَى فيه الذكر بالأنثى، ومنها ما قد يزيد فيه حظ الأنثى عن الذكر!
إذا تفكّرت في هذا التصور الكلي، وجدت أن التفاوت الواقع حقيقة بين البشر ينافي إمكان تحقق المساواة فعلياً، وأن سجالات المساواة التي خَرَمت الآذان لم تتعد الحيّز النظري للتطبيق العملي الشامل حتى الآن، وكل محاولات التسوية القسريّة بين البشر رغم تفاوتهم هي عين الظلم والإجحاف والفوضى الوجودية، لكن انسجام التفاوت بين البشر ومراعاته التكليفية والحقوقية في التصور الإلهي، الذي جعل لكل شيء قدراً، يُحِقُّ الإنصاف ويرفع الجَوْر، وهذان هما المقصود المأمول من المساواة كما يُتوقّع، والاصطلاح الأصوب هو العدل والإنصاف.
إلا أنّ عقيدة أصحاب حقوق الإنسان بالتصور الوضعي تقوم على وتهدف إلى هَـدِّ الأصول الإلهية في تسيير منظومة الوجود، وإبدالها بأصول بشرية تعيد توزيع الأدوار والتكليفات من البداية، وفق ما تتصوره عقليات بشرية معوجة، ولن يُوفَّقوا في ذلك ما حاولوا، بل سيظلون في تخبط وتضارب وتناحر أبد الدهر! لأن استقامة مخلوق على منظومة كاملة من التكاليف والحقوق والمسؤوليات والأدوار، لا تكون إلا حين توافق المنظومة خِلقَته وتهيئته ، ولا يقع هذا التوافق إلا أن يكون الخَلق والتكليف من جهة واحدة، ولا تتوحد الجهة إلا من الله تبارك وتعالى.