على عجلٍ يفرّون من بيوتهم في فزعٍ ليس له مثيل. طائرات تقذف حِمَمَاً، تحرق الأرض ومَن عليها، فيموت من يموت، وينجو من ينجو، ليغادر المكان على عجلٍ مَن يقول: (انجُ سعد فقد هلكَ سعيد).
إنهم أهالي ريف إدلب الجنوبية وشمال حماة، يخرجون زُرافات ووُحدانا بما يزيد عن ربع مليون مهجّر، أغلبهم من النساء والأطفال، فارِّيْن بأرواحهم إلى المجهول في نكبةِ من التهجير عظيمة.
راكبين وراجلين، يزدحمون على طريق ترميهم في فَلاةٍ باردة أو مزارع مُوحِلة، فلا أرضٌ تُقلّهم ولا سماءٌ تُظلّهم.
تكتفي المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بدور (الـكاشير) فتجمع الأعداد وتنشر التقارير عمّا خلّفه طيران الموت من قتيل وجريحٍ ومهجّر.
ثم يغرّد ترامب محذراً من قتل المدنيين في إدلب، عِلماً أن الرجل وبعضَ قادة الغرب كانوا عندما يحذِّرون من ارتكاب جرائم مشابهة في السابق، يُسارع القَتَلة إلى تكثيف القصف لترويع الناس، ناسفين تلك النُّذر وراء ظهورهم، وكأنما التحذير إغراءٌ بالاستمرار وإيغالٌ في الجريمة.
ومن الرسائل رسائلٌ ظاهرها الرحمة وباطنها طلبُ العذاب، فهي تنبىء بغير ما تقول...!!
ثم يأخذُك العَجبُ وأنت تسأل عن قادة العرب والمسلمين الذين يَهيجون فيُرسلون مندوبيهم كلما وقعت حادثة قتْل في أصقاع الغرب مُعَزّين و متملِّقين، ثم يسكتون سكوتَ الموتى، فلا ينبسّ أحدُهم ببنت شفا أمام تلك الصور المرعبة، والمشاهد التي تذوبُ لها أكبادُ الوحوش، فيصورهم الشاعر العربي بقوله:
ومن يَهن يَسهل الهَوانُ عليه ما لِجُرح بميّتٍ إيلام
ربما كان العذرُ في سكوتهم أنَّ المناطق التي يحصل فيها التهجير مناطقٌ تسيطر عليها جماعاتٌ إسلامية متشددة . تُرى أيكون ذلك مبرراً للخَرَس وتعصيب العينين ..؟!، فكم تساوي نسبة أولئك من نسبة المدنيّين المهجّرين؟ ثم أيؤخذُ الأطفال والنساء بجريرة غيرهم؟!.
وربما كان عذرُهم فيما لو وقفوا إلى جانب المطارَدين من النساء والأطفال أن تُلصق بهم لصيقةُ الإرهاب، فيُحسب عليهم أنهم ساندوا "الإرهابيين"!!
أليست تلك مزاعم المتخاذلين الذين وقعوا في وعيد البيان النبوّي الشريف: ((ما من امرئ مسلم يَخْذلُ امرأً مسلماً في موطنٍ تُنتهك فيه حرمتُه، وينتقص فيه من عِرضه، إلا خذله الله في موطن يُحبٌّ فيه نُصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحبُ فيه نُصرته)) (رواه أبو داود).
ويضاف الى قافلة الساكتين من قادة العرب و المسلمين كُتّابٌ سيالو الأقلام، يكتبون في كل شاردةٍ وواردةٍ، ثم تجفُّ أقلامهم جُبناً بين يدي تلك المشاهد الفظيعة!! وما ذاك إلا لأنهم كتّابٌ عبيدٌ للأوّليين.
كذلك يلحق بركاب الساكتين أولئك المتشدقون من علمانية العرب بحقوق الإنسان وحرية تعبيره.. ثم لا تحسّ منهم من أحدٍ أو تسمع له رِكزاً عندما يتعرض المسلمون للنكبات الرهيبة!
أين الإنسانية التي يستشعر فيها الإنسان ألمَ أخيه الإنسان، قبل أن يصله باللون أو بالعرق أو بالدين؟!.
ألم تبصر عيونُهم ذلك الطفل الذي يرتجف من البرد و قد أخفى رأسه بين ركبتيه، وأجهش بالبكاء تحت شجرة الزيتون!!
ألا يوقظ ضمائرهم ذلك الصوت المتحشرج للمرأة التي ظهرت بجانب خيامٍ تُعصَرُ بمطر الشتاء وهي تطالب منظمة حقوق الإنسان أن تتأسى بمنظمة حقوق الحيوان لتنظر في شأنهم!!
ألا يخشى أولئك الساكتون أن تدور بهم دورةُ الزمن المرّ فيتعرضون هم أو أولادهم لما يتعرض له أولئك الذين فرّوا هامّين على وجوههم؟!.
ألا يخشى أولئك الساكتون أن تدور بهم دورةُ الزمن المرّ فيتعرضون هم أو أولادهم لما يتعرض له أولئك الذين فرّوا هامّين على وجوههم؟
إن أولئك الأصناف من الناس قد قست قلوبهم، وتملكتهم غَشية الضمير، فلم يعد يجدي معهم الكلام.
إنما يُستنهض في هذه المواقف أولئك الرحماء من التجّار وأصحاب الأعمال، الذين يدركون أن رحمة الغني بالفقير، ورحمة القوي بالضعيف، إنما هي من حقِّ العبد على العبد، الذين لا يرضيهم أن يعيشون في دُورٍ فارهة ونِعَماً شتى تطوف بهم، وإلى جانبهم في الطرف الآخر أسرةٌ تعاني من الضنك والحرمان تبحث عن كِنٍّ تأوي إليه، فيقيها من عواصف البرد ورَيب المَنُون.
يدركون معنى الخَيبة وحجم الخسارة لمن بات شبعان وجاره جائعٌ إلى جانبه. فهم إخوة على السوّاء في المِنَحِ والِمحَن، وفي النِّعم والنِّقم، بِهم _لا بالساكتين الخانعين _ تُستمطر رحمات السماء وتتحقق معاني الرحمة الأرضية.