8 محاسن تفوّق المسلسل التركي (قيامة أرطغرل) في تصويرها

الرئيسية » بصائر تربوية » 8 محاسن تفوّق المسلسل التركي (قيامة أرطغرل) في تصويرها
Ertgrul

تتأرجح سمعة #الدراما التاريخية المعاصرة بين كفتين: كفة إبهار الإخراج الفني والتأثيرات التصويرية، وكفة دقة مطابقة الحبكة السينيمائية لحقائق الواقع التاريخي؛ وتكون الكفة الغالبة عادة هي الأولى. وإذا كان الكلام على التاريخ الإسلامي والعربي، فالأسلم بناء المعرفة التاريخية من المتون والوثائقيات المعتمدة، لا من الدراميات خاصة الأجنبية.

لذلك كانت مشاهدة المسلسل التركي (الغازي أرطغرل) أو (قيامة أرطغرل) مفاجأة سارّة بالنسبة لي. فإذا تجاوزنا ما لا مفرّ منه من تدخلات فنية تخالف واقع التاريخ، بزيادة أو نقصان لا تخل بأصول الحقائق الكبرى خاصة لمن كان مُلِمًّا بها، تجد مادة المسلسل عامرة بأطايب الثمر المكافئ في عائده لكبد طول ساعات المشاهدة ! وفيما يلي عرض لثماني لفتات استحسنتها أثناء مشاهدته، بناء على النسخة المترجمة لا المدبلجة:

1. لا حياء من الدين: كثير من المواد التاريخية التي تتناول التاريخ الإسلامي تُغفل عمدًا الصِّبغة الدينية، ولا تقاربها إلا اضطرارًا وعلى استحياء، وتغذّي في المقابل نبرة العصبيّة القومية والحَميّة الجغرافية، فتضيّق الواسع وتوسّع الضيق مراعاة لموازين عالمية المعلومة. لكنّ مسلسل أرطغرل امتاز بحضور الأجواء الدينية والمعنويات الإيمانية بقوة وحرارة يتشرب المشاهد آثارهما لا ريب، ويصرّح بانتماءات واصطلاحات شرعية يتورّع عنها –ويرتاع منها- المصوّرون لمثل تلك الحقب التاريخية. ويضاف إلى ذلك مشاهد مفصّلة وثرية للوعظ والتذكرة المُباشرَيْن، دون فوبيا إملال المشاهد التي يتوجّس منها صنّاع الإعلام!

كثير من المواد التاريخية التي تتناول التاريخ الإسلامي تُغفل عمدًا صبغتها الدينية وتتكئ في المقابل على النبرة القومية والحمية الوطنية

2. جودة نصّ الحوار والسيناريو: وثرائه بالمقتبسات والحِكَم التي تناقلتها شبكة الإنترنت بمختلف اللغات. ومن المزالق المعلومة في الدراميات الأجنبية المعنيّة بالإسلام، عدم تدقيق صحة قصص المرويات واقتباسات الآيات والأحاديث، لأن المصادر الأجنبية ليست عامة بدقة الأصول العربية. غير أنّ السرد والشواهد الواردة في المسلسل موثقة وصحيحة بما يشي بعناية القائمين على تدقيق المادة وتأصيلها دينيا كما فنيا.

3. التناسب الحسن بين مساحات عرض جوانب التاريخ والسياسة والاجتماع لتلك الحقبة: فإلى جانب المتوقع من تصوير الحروب والمقاتلات والمكائد والدسائس، تجد عرض نمط الحياة ودقائق مفرادتها اليومية، وطبيعة العلاقات والأواصر والعادات بين أهلها. فالمادة كاملة استحياء متكامل لتاريخ أحياء، لا تجور محورية جانب فيه على اكتمال رسم ملامح جانب آخر. وينتفع بتكاملية ذلك التصوير التقريبي خاصة –وينتبه له- المطالعون لمتون التاريخ، فليس من رأى تجسيدًا كمن قرأ تقريرًا. وفي المقابل، من يعتمد في معرفة التاريخ على الفرجة فحسب لا يتجاوز المتعة للانتفاع الحق، بل وتكون معرفته مشوّهة يقينا، إذا صحّ أن تسمى معرفة!

4. استمداد التعريفات والمعاني من أصول التوحيد لا مما جرى عليه العرف: فأواصر الإيمان قد تكون أوجب حقوقًا من صلات الأرحام؛ والافتراق بسبب داعي الحق خير من التفضيل المطلق للاتحاد ولو على باطل؛ وطلب استقرار الأحوال وراحة البال قد يكون مدعاة لفتن أخطر عاقبة وأبعد غورًا من القلقلة الظاهرة التي تثيرها زعزعة جذور الظلم والباطل.

5. تجسيد الانسجام الطبيعي والتوازن الوجودي بين أدوار الرجال والنساء: مع وضوح الخط الفاصل بينهما، دون تفريط أو إفراط النزعات النسوية والذكورية المعاصرة، والتي يتم بثها عمدًا في الدّراميات المُجسِّدة لحقب لم تكن ظهرت فيها تلك العُقَد أصلًا! وكذلك مراعاة تغليب الغالب في صفاتهما المُمَيِّزَة دون أحادية على الدوام: فتجد في الرجال غلبة صفات القوة والحزم والمروءة والنجدة والمتانة البدنية والوجدانية، دون إغفال إظهار خِلال الرفق والرحمة في مواضعها مع الأهل والمستضعفين، مع أوقات ضعف وخور وسوء تقدير للمآلات وغير ذلك من آفات تعرض للبشر وإن كانوا صالحين. وتجد الغالب في النساء الرفق والحنو والرعاية والمهارة الحرفية، جنبًا إلى جنب مع قوة صمود وتحمل شظف ذلك النمط من الحياة، والذبّ عن عِرضها وأهلها حال الحاجة، والثبات على الحق بالمؤازرة والافتداء. وإلى ذلك لا تخلو المادة من تصوير مساوئ الأخلاق في الصنفين، أشهرها نذالة الرجال وكيد النساء.

6. نزاهة عرض جوانب الحب والزواج: دون المغالاة التي تقع فيها الدراميات المتلاعبة على أوتار الرومانسيات المفتعلة بما يحيد عن أصل الحبكة؛ ودون قحط الدراميات المجرّدة منها باسم السمو والترفع، بما يُجفّف أصل الحبكة! بل بين هذا وذاك تجد وسطية البشر الطبيعيين والدَّيِّنين الأسوياء، الذين يتمّم الدين فطرتهم ولا يسلخها، وتتهذب فطرتهم وفاقًا للدين فلا تعانده. فلا أثر لعُقدة: حب الدين مانع من محبة ما عداه، ولا تبني لعقيدة: دين الحب حاكم على كل حب سواه. وبالتالي لا شكل واحد للزواج الموفق، ولا درجة موحدة لعمق الحب ونوع لهيبه، بل تجد زيجات مبدؤها القلب وأخرى مبدؤها العقل، وكلاهما لا يخلو من منفعة ومصلحة خاصة أو عامة، وكذلك الإفراد والتعدد، والتبتل، والزواج بعد ترمّل. وتجد حبا في غير أوانه أو لغير أهله، وأوان سابق للحب، أو أهل عن غير حب.. وكلٌّ له نهج معاملة بدون القاعدة الكربونية المستنسخة بابتذال من دستور الرومانسية العالمي!

7. تجسيد الجمع بين المتعذرات ظاهرًا: شخصيات المسلسل ومنحيات أحداثه تجسّد حكمة وضع الأمور مواضعها، وترسم بمهارة معالم الحدود الفارقة عند تطبيق ما يختلط على الغالبية من أزواج، مثل: الرفق والحزم، الإنصاف بين حقوق الأرحام وحقوق الحُرُمات، جيشا الوجدان ولجام العقل، رعونة الفورة العصبية وكياسة الحرارة الإيمانية، العدالة الحقة والتسوية العمياء، شدة إنزال العقوبة بمن أخطأ وعصى ورحمة الغفران لمن تاب وأصلح، إعمال السيوف واستعمال الدهاء، أوقات النصر وأوقات الانحسار، الشعور بالعزة والتعرض للإذلال... إلخ.

8. تجسيد سنن الثبات والتغير: يعرض المسلسل كل أنواع الفقد والفراق والذهاب والمجيء (وما لم تتوقع ذلك من البداية قد تصاب بإحباطات التعلق بالشخصيات انتهاء). فالثبات الوحيد هو لله تعالى، ثم لما يستمد من الإيمان به والدعوة له، وكل ما خلا الله متغير أو فانٍ لا محالة.

وبذلك تشهد معنى الفرق بين: مؤمن اتخذ أصلًا عنه تتفرع عنه جوانب الحياة، ومن اتخذ لنفسه أصولًا تتشتت بينها حياة الجوانب. فالأول مهما ابتُلي بما أخبر الله به من نقص في الأموال والأنفس والثمرات، يأوي لركن شديد ويرتكز على أصل أصيل، فلا يتضعضع وإن تقلقل، ولا ينكص وإن انكفأ، ولا يسخط وإن حزن، ولا يظلم قلبه وإن رانت عليه سحب حتى حين. لذلك يتكرر في المسلسل تجسيد منحنيات تجدد معنى الحياة في قلب المؤمن بالله بقدر ما يجدد في نفسه من معاني الإيمان وقضاياه.  

ونختم بتقرير أن هذا العمل على ما فيه من محامد، يظل إنتاجاً بشرياً يجري عليه ما يجري على عمل البشر من أوجه حُسن وقصور، ودرجات إصابة وخطأ، وإنما كانت هذه المقالة لمشاركة أبرز ما استحسنتُ فيه، وما فاق فيه أعمالا أخرى في نفس المجال.

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

كيف يناقش الأب ابنته في مسائل الحب والمشاعر العاطفية؟

عادة ما تثير الحوادث التي تتعلق بانتحار الفتيات أو قتلهن كضحايا لقصص حب أو علاقات …