أزمة المسلم في استمداد التقدير والثبات

الرئيسية » بصائر تربوية » أزمة المسلم في استمداد التقدير والثبات
muslim

ممّن أو ممّاذا تستمدّ شعورك بقيمتك في الحياة؟ وما معايير تقديرك لجودة أدائك لأدوارك المختلفة؟ ومن أين تستقي تلك المعايير؟ وما الركن الذي تأوي إليه حين تعصف بك حيرة أو يزل بك هوى؟ ما مكمن ثباتك في أمرك؟

مع أن إجابات تلك التساؤلات ينبغي أن تكون واضحة في مرجعية المسلم، إلا أن السائد اليوم هو تضارب موارد استمداد المسلم خاصة لتقدير ذاته وثباتها من أخطر المشكلات الوجودية التي تهدد كيانه  وتكدر صفوه وتزعزع اطمئنانه.

فتضارب موارد استمداد تقديرك لنفسك ووجودك سيؤدي لأزمة تشاكس التقدير، وكلمة التشاكس وردت في قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29] وورد في تفسير معنى التشاكس أنه: الاختلاف، التعاكس، التنازع، التناحر.

ويقع ذلك التشاكس في التقدير على مستويين:

1. تشاكس مصادر التقدير

فتارة نستقي التقدير من أنفسنا (أي رضانا الذاتي)، وتارة نستقيه من مدى رضا الناس عنا أو إعجابهم بنا، وحيناً نَقيسُه وفق مدى التزامنا بشعائر الدين، وأحياناً نستمده من مدى موافقتنا للأعراف السائدة حولنا، ومنبع التشاكس بين مختلف هذه الموارد أننا لا نُنزِل كلّاً منها منزلته ولا نعطيه قدره، بل نتنقل بينها بفوضى وعشوائية وتذبذب، فلا نعرف متى يكون تقدير هذا المصدر أو ذاك مُعتبراً، ولا لمن تكون الغَلَبة حين يقع تعارض بينها.

2. تشاكس معايير التقدير

فتارة تكون العبرة بكثرة المصفّقين وجمهرة المؤيدين، وتارة تكون القِلّة هي معيار التقدير لأن الغالبيّة علامة الباطل! وأحياناً تكون الوجاهة الدنيويّة والسَّعَة الماليّة هي معيار القيمة، أو يكون إدبار الدنيا وضيق الحال علامة القبول! وقد تكون العزوبية حتى سنٍّ كبيرة في حق الرجل علامة تقدير تفيد النضج وعلوّ قيمة الذات، وتكون هي ذاتها في حق المرأة معيار ذمٍّ وانتقاص قيمة! وهذه إشكالية استمداد ثبات المعايير من متغيرات: فالأعراف المجتمعية مُتلوّنة، وكلام الناس كلّ يوم في شأن .

وهكذا تتناحر موارد استمدادنا لمصادر التقدير ومعاييره، بين الأفهام المشوّهة، والعقد الاجتماعية، والازدواجية المزاجية، والتصوّرات السطحية، والنفسيّات الهشّة... فيظل المرء محتاراً مذبذباً في تعريف قيمته في الحياة، إلى أن تفقد الحياة نفسها عنده قيمتها، فتصير المعادلة "عيشة والسلام"، كأنه ليس بعد السلام حساب وسؤال!

أما تضارب موارد استمداد الثبات فيؤدي لأزمة قلقلة الشخصية وذبذبتها، فيصير أصحابها كأنهم "خُشُب مُسَنَّدَةِ" بالتعبير القرآني، من شدة الخواء والخَوَر والضعف والجُبن، يحتاجون لمن يُسنِّدهم في خوض حياتهم، بل أحياناً من يعيش حياتهم نيابة عنهم، ليوفّر عليهم بذل أي عناء من أنفسهم لأنفسهم!

فما هي الموارد المتضاربة التي نحاول أن نستمدّ منها ثباتنا فتؤدي لزعزعته؟

1. المورد الأول: بِنْيَة فكريّة مشوّهة

وهذا النتاج الطبيعي لعجين المرجعية ، والذي يجعل صاحبه عرضة للتشكك والذبذبة في نفسه وهُوِّيته وديانته ومبادئه وقناعاته، والوقوع في الاشتباه لأدنى عارض!

عجين المرجعية يجعل صاحبه عرضة للتشكك والذبذبة في نفسه وهُوِّيته وديانته ومبادئه وقناعاته، والوقوع في الاشتباه لأدنى عارض

2. المورد الثاني: بِنية نفسيّة هَشّة

ثمة فارق بين الرقة الوجدانية أو الرهافة الشعورية، والهشاشة النفسيّة التي تجعل صاحبها في حاجة مستمرة ومُلِحَّة للتسنيد الحاضر ممن حوله، فإذا نضَب ذلك التسنيد أو قلّ، أو انشغل عنه من حوله بنفوسهم، شعر ذو البنية الهشّة بقلة حيلته وانفراط أمره، ومن مظاهر تلك الهشاشة: نوبات الفوران العاطفي، وتقلّبات المزاج العاتية، بين خِفّة الفرح حيناً ثم قاع الاكتئاب حينا تالياً، ومن معالمها: الحساسية الشديدة من كلام الناس وأفعالهم، واستنزاف كمٍّ هائل من الوقت وطاقات الفكر والوجدان في تقليب مواجع كل موقف، وتأويل كلّ كلمة، وحساب كل شاردة وواردة.

ومن معالم تلك الشخصية كذلك ألا تقدر على اتخاذ قرار دون استنفار المحيط حولها شِكاية وحكاية، وبعد ذلك تظل محتارة؛ لأنها تَجبُن عن خوض المجهول، وتخشى مواجهة العواقب، وتخاف من تحمّل المسؤولية، وتبحث دائماً عمّن تحمّله ملامة التقصير أو الخطأ من خارجها، وهذه آفات مانعة من ممارسة الحياة بصورة سَوِيّة؛ لأن الحياة السَّوِيَّة لا تكون بغير مفترقات قرار حتميّة ومسؤولية فرديّة وعواقب غيبيّة!  

ثمة فارق بين الرقة الوجدانية أو الرهافة الشعورية، والهشاشة النفسيّة التي تجعل صاحبها في حاجة مستمرة ومُلِحَّة للتسنيد الحاضر ممن حوله

3. المورد الثالث: واقعية مُتشنّجة

فبسبب انعدام الرسوخ الفكري والنضج الوجداني، يترنح تعاملنا مع الواقع ويتشنج بين ردود فعل ثلاثة:

• نكد الثبات على المبدأ، وحروب التغيير، ومشاحنات الاختلاف مع الآخرين.

• رعب مخالفة السائد، وعماية التسليم للواقع الموجود، وآليّة السريان مع التيار حيث سرى.

• كراهة ونبذ كلّ ما ومن حولك، بما في ذلك نفسك! وبالتالي الوقوع في مختلف صور الانفصام الداخلي والاكتئاب النفسي، مع إدمان مختلف وسائل اللهو والتلهّي، للهروب والتناسي!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …