كثيراً ما نتساءل: كيف كان الأوّلون يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، وواحدهم لا يزال صبيّاً لا يميز بعد، ويحفظون القصيدة من الشعر من سمْع مرةٍ واحدة!
نتساءل كيف استطاعوا أن يتحفوا التاريخ البشري بمصنفات يصعُب عدّها من كُتب التفسير والفقه والحديث والأدب، ومن كتب الفلسفة والطب وعلم الاجتماع وغيرها في عصورهم التي لم تُنرها الكهرباء ولم تَختصر الزمن بالإنترنت والأقمار الصناعية، بل كان كل ما لديهم في هذا الصدد القرطاس والحبر والريشة!
تُرى ما سرُّ عبقرية الإمام الشافعي التي أذهل بها العالم، ومَن هو أبو حنيفة الذي قيل فيه: "كان الناس نياماً عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه!"
ومن هو السيوطي الذي ألف ما يقارب (1000) كتاب، وقال عن نفسه: لقد حفظتُ مائتي ألف حديث ولو وجدت أكثر لحفظته! وغيرهم كُثر لا مجال لحصرهم...
ثم هل انقطع نسلُ ذوي العقول النابغة فلا يكاد يوجد منهم في يومنا هذا أحد!
الحقيقة، هم موجودون في كل زمان وفي كل مكان من الأرض، يظهر بين الفنية والأخرى في الأجيال من يتميز بتلك الذاكرة القويّة التي ملكها أجداده وبالذكاء الذي نبغوا به وبالخيال الواسع الذي حازوه، وكأن فمَ التاريخ ينطق بعد كل مرحلة يقطعها: إن الإنسان هو ذا الإنسان لم يتغير، وعقله الذي أُكرم به اليوم كعَقله الذي أُكرم به لأول مرة، وأن التكريم الإلهي له عامّ في كل عصوره لم يقيّد بعصر محدد، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].
إنّ فمَ التاريخ ينطق بعد كل مرحلة يقطعها: إن الإنسان هو ذا الإنسان لم يتغير، وعقله الذي أُكرم به اليوم كعَقله الذي أُكرم به لأول مرة
هي حقيقة لا لَبْس فيها، وإن أُلبسَ على دارون وهيجل وماركس ونحوهم، الذين لم يعتدّوا بقيمة العقل، وأوغلوا في نظريّات جاء العلم ليهدم زيفها، ويؤكد أن العقل المكرُمة لم يكن عاجزاً عن التفكير ثم اضطرته الضرورة وحاجة الحياة ليتطور ويفكّر.
ويخطئ آخرون عندما يتصورون أن كمالَ عقول الأقدمين وقوّة حافظتهم وصفاء تفكيرهم يعود إلى الحياة البسيطة التي عاشوها، والمأكولات الطبيعيّة التي كانوا يستخلصونها من مزارعهم، وأنّ تأخرنا عنهم كان بسبب (الهرمونات) التي اكتسحت خضرواتنا وفاكهتنا، وبسبب الإشعاعات والأبخرة والزحام وتلوث الهواء وتعكّر الماء.
ليست مقنعة هذه الأسباب التي يثيرها كل حين أناسٌ، ثم يأتي غيرهم فيكذبونها.
إذاً ما هي الأسباب الكامنة وراء ثقل الفَهم، وركود الذِّهن، وضعف الذَّكاء؟ إنّي أجملها بالآتي:
السبب الأوّل/ هو جملة الأخطاء المتمثلة في أساليب التربية و التعليم التي يتلقاها الإنسان طيلة حياته في البيت والمدرسة؛ فإنّها ذات أثر بالغ على عقل المتعلم، تجعله فيما بعد بليداً جباناً أمام أبسط المسائل والمواقف التي يمر بها، وعادةً ما تكون هذه الأخطاء من آثار الجهل وقلّة الاطلاع.
وفي نتائج الدراسة العميقة التي أجراها الدكتور (محمد أمزيان) في بحث منشور بعنوان: "علاقة الذكاء العام وأساليب التعليم الدراسي" اعتمد فيها على تجارب وأقوال عدد من علماء التربية في الغرب والشرق قال: "وخلاصة القول: إن الذكاء العام وأسلوب التعلّم عاملان متكاملان في تفسير نتائج الدراسة الحالية، فالتلاميذ الذين يحصلون على درجات عالية في اختبارات الذكاء العام يستخدمون استراتيجيات معرفية وأساليب تعليم مختلفة عمّا هو لدى أقرانهم الذين يحصلون على درجات متدنية في قدرات الذكاء العام" .
وجاء في البروتوكول السادس عشر لحكماء صهيون: "وأسلوب التعليم الملجم للعقول والطامس على الأذهان مطبّق اليوم في المنهج المعروف بدروس الأشياء وهذه الطريقة غايتها إخمال أذهان الغوييم (غير اليهود) ودفعها نحو البلادة والاسترخاء".
السبب الثاني/ الغزو الإعلامي المرئي والمسموع، وجيوشه المعادية للدين والأخلاق، والذي هجم ليطفئ نور البصيرة، ويشوش على العقيدة، ويسيطر على العقول -وخاصة عقول الناشئة- فأصبحت الشاشات الصغيرة والكبيرة بمثابة المعلِّمين الذين يلقون الدروس فتعلو لهم الجباه وتشنّف لهم الآذان، وتُتلقى الأفكار وكأنها أمر واقع، لا يسمح بالرد أو المناقشة.
وهذا يضرّ بالذكاء، بدليل أنّه يحمّل صاحبه بعد فترة إلى التقليد وتبنّي الأفكار المستوردة، وهذه علامة الهزيمة التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته في قوله: "إنما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوها".
أصبحت الشاشات الصغيرة والكبيرة بمثابة المعلِّمين الذين يلقون الدروس فتعلو لهم الجباه وتشنّف لهم الآذان، وتُتلقى الأفكار وكأنها أمر واقع، لا يسمح بالرد أو المناقشة، وهذا يضرّ بالذكاء
السبب الثالث/ إطلاق البصر وإثارة الشهوة الجنسية المفضية إلى ما يسمى بـ(الهوس الجنسي) فيقرأ المهووس الكلمةَ الرقيقة والنظرة البريئة والضحكة الرنانة ونحو ذلك... قراءةً جنسيّةً بحتة!
وغضّ البصر تزكية للنفس ونور للقلب، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
وفي فوائد ابن القيّم قوله: "غضّ البصر يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب" .
السبب الرابع/ أكلُ مال الحرام، فالأكل الذي يدخل المعدة من مال حرام يفعل بالعقل ما يفعل السمُّ الزُّعاف بالجسد الصحيح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء:29].
قال شجاع الكرماني - الذي قيل فيه "لم تُخطئ له فراسة": "من عمّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغضّ بصره عن المحارم، وكفّ نفسه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة".
السبب الخامس/ الإعراض عن الذكر والطاعة؛ لأن كثرة الذكر والتسبيح والتهليل، والصلاة على النبي وتلاوة القرآن تورث نوراً وبركة في العقل، وطمأنينةً في القلب ، لذلك يصف -سبحانه وتعالى- التُّقاة بأولي الألباب، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191].
وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسَعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق".
هذه خمسة أسباب في تداركها يخرج الإنسان من دائرة الغباء وخمول العقل، ويسعد بالحكمة ونور القلب، ويحظى بحدّة الذكاء التي كانت في أجداده.