"كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَقالَ: "ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، ومَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللَّهِ أفلا نَتَّكِلُ؟ قالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أعْطَى واتَّقَى وصَدَّقَ بالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} إلى قَوْلِهِ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}" (البخاري)
"قالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أيُعْرَفُ أهْلُ الجَنَّةِ مِن أهْلِ النَّارِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قالَ: كُلٌّ يَعْمَلُ لِما خُلِقَ له، أوْ لِما يُسِّرَ له" (البخاري).
ما يزال السؤال عن جدوى عمل العامل طالما القدر مكتوب يشكل على المسلمين اليوم، ومع ذلك لا تكفيهم الأجوبة المحكمة التي كفت سلفهم الصالح من قبل، مما ورد في كلام الله ورسوله، وسبب ذلك ليس تعقّد البنية الفكرية ولا تقدم الذكاء الإنساني، بل هو ببساطة خلط المسلمين اليوم بين جهة الرب وجهة العبد، وإصرارهم على التنقيب فيما غُيّب عنهم، وهربهم من الاشتغال بتكليفهم بتكلف الاشتغال بما لا يعنيهم.
وجواب هذا السؤال المخصوص، أنّ الله تعالى يعلم من وما خلق وأعمالهم وآجالهم ومصائرهم علماً أزليّاً، وكيف لا وهو الخالق! {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ولا يخرج شيء ولا أحد عن علم الله ومشيئته وتقديره، وكيف يخرج وهو مخلوق مملوك؟
وأما من جهة العبد فهو غير مَعنيّ ولا مُخوّل بالاطلاع على علم الرب تبارك وتعالى وتقديره، وإنما ما هو مَعنيّ به أنّ الله جعل له قدر إرادة وحرية وبيّن له مصارفهما، فمن شاء كفر ومن شاء آمن، ومن شاء أطاع ومن شاء عصى، وعجباً ممّن يتحجّج وقت الذنب بأنّ المعصية كُتبت عليه فلا يستحق ملامة، لماذا لا يتحجج وقت الطاعة أنّ الهداية نعمة كتبت له فلا يستحق مثوبة؟ وهذا لا يستقيم بحال؛ لأنه لا مؤمن يُقبِل على الطاعة إلا وهو يرجوها عند الله، فكان لزاماً وفاقاً ألا يُقدِم على معصية إلا وهو يخشاها عند الله .
العبد غير مَعنيّ ولا مُخوّل بالاطلاع على علم الرب تبارك وتعالى وتقديره
وقد أورد القرآن -في غير موضع- تحجج المشركين بتقدير الله ومشيئته على كفرهم، وردّ الله تعالى عليهم حججهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] وكذلك وردت نفس الحجج على لسان بني إسرائيل، وكذلكم رد الله عليهم حجتهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 155] فالله تعالى يُيَسّر كُلّاً لما خَلقَ له، وما يعلم أنه صائر إليه: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً} [الإسراء: 84].
على كل مؤمن أن يتأمل في تلك الأجوبة الوجيزة والمحكمة، ويأخذ ما آتاه الله ورسوله ويكون من الشاكرين، ويدع عنه التفلسف الفارغ، والخوض الباطل في الباطل
والخلاصة أن تلتزم ما يجب عليك في جهة العبد مما تَمّ بيانه لك، وتفوِّض أمرك كله لله الذي بيده الأمر كله، وتَكفَّ عن التنقيب في أسرار الغيب وما يختص به مقام الألوهية، وتمتنع عن قياس جهتك أيها العبد وحدود فهمك على جهة الرب وطلاقة سلطانه، فعلى كل مؤمن أن يتأمل في تلك الأجوبة الوجيزة والمحكمة، ويأخذ ما آتاه الله ورسوله ويكون من الشاكرين، ويدع عنه التفلسف الفارغ، والخوض الباطل في الباطل.
وإنما بذل الجهد هو مسؤولية الخلق عليك، وحقّ الخالق فيك، وحقّ نفسك عليك ، وتوفيقك إليه من فضل الله عليك، ومكافأتك عليه من تمام إنعام الله عليك، فاشتغل بما لا يؤدّيه عنك غيرك من تكليفك عِوضاً عمّا لم تُكلَّف به ولا طاقة لك عليه، واستعِن بمن لا توفيق لك بغيره، ودع الحساب لأهله.