لا نزال مع القضايا التي تطرحها الدورة الحادية والخمسون لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، والتي بدأت قبل أيام قليلة.
ولعل من بين أهم هذه القضايا، ما يتصل بالشريحة الأهم في أي مجتمع، وهي شريحة الشباب، والتي اكتسبت أهمية استثنائية في مجالات الاهتمام الإعلامي والمجتمعي بعد الدور الذي لعبته هذه الشريحة في الثورات والاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها الكثير من بلدان العالم العربي في العقد الأخير.
ويظهر لنا هنا جدل كبير حول إبداعات الشباب -أو كتاباتهم بمعنىً أدق- فالنقطة المتعلقة بتوصيف أي نِتَاج في المجال الأدبي أو الفنون المختلفة الأخرى، بوصف يحمل طابعاً قيميّاً مثل "إبداع"، إنما هو أمر خلافي بحسب رؤية الناظر إلى العمل، أو الناقد له.
وثمَّة تفسيرَان أوَّليَّان موضوعَان لهذه الظاهرة: التفسير الأول/ هو سهولة الكتابة في هذا المجال، مع تحفُّظ مهم، هو أن سهولة كتابة قصيدة حُرَّة أو رواية طويلة، لا يعني سطحية أو تفاهة هذه الفنون الإبداعية، وإنما الأمر يخص استطاعة الكاتب صياغة عبارات وفقرات تصنع قصيدة حُرَّة أو رواية عبارة عن سردية أحداث؛ لأن هناك قصائد وروايات من العمق بمكان، ويمكن دراستها كنموذج في مجال علم النفس أو الاجتماع، فقط نقصد بالسهولة هنا، القدرة على الإنتاج، ولو كان المُنْتَج غير مُتَميِّز أو لا يقدم فائدة.
أما التفسير الثاني/ فهو نفسي ومجتمعي؛ يرى علماء النفس والاجتماع وخبراء عديدون في المجال الإعلامي أن النفس الإنسانية تنزِع إلى الهروب من واقعها إذا ما زادت عليها الأزمات والمشكلات.
ولا يُوجد مسار للهروب من الواقع سوى قراءة الأدب، ولا سيما الأدب القصصي بفنونه المختلفة، مثل الرواية والقصص القصيرة؛ يقدِّم خيال المؤلِّف بديلاً مقبولاً للواقع المؤلم، أو بوابة خلفية للفرار من هذا الواقع.
ويشمل ذلك طائفة متقارِبة من الفنون، مثل فنون الحكي، ويتضمن الحكايات المُغنَّاة والسير الشعبية والقصص التراثي، وغير ذلك.
ويستوي في ذلك الكتابة مع القراءة؛ فإضافة إلى أن الكتابة في هذه المجالات، يضمن وسيلة مفيدة وفعَّالة للتنفيس عن مشكلات الإنسان النفسية، والتعبير عن ذاته ونوازعه ورغباته على الورق بما لا يستطيع في الواقع.
وهي وسيلة معترف بها في علم النفس، وتُدعَى التسامي؛ حين يميل الإنسان إلى الكتابة أو الرسم بما لا يستطيع فعله في الواقع، أو معالجة أزماته الذاتية على الورق، تأليفاً أو رسماً، أو حتى كتابة قطعة موسيقية.
وبطبيعة الحال؛ فإنه لا توجد بيئة مُوَلِّدة لعناصر ارتياد آفاق هذه المجالات من الكتابة من بيئاتنا السياسية والمجتمعية العربية؛ حيث الكثير من عناصر التأثير السلبي على نفس وأحوال الإنسان، وخصوصاً الكبت السياسي والمجتمعي، وفقدان الدافعية، وفقدان الرغبة في الانخراط في مناشط الحياة المختلفة، مع حالة من اليأس من التقدم وتحقيق الإنسان لأحلامه.
هناك الكثير من عناصر التأثير السلبي على نفس وأحوال الإنسان، وخصوصاً الكبت السياسي والمجتمعي، وفقدان الدافعية، وفقدان الرغبة في الانخراط في مناشط الحياة المختلفة، مع حالة من اليأس من التقدم وتحقيق الإنسان لأحلامه
ولكن هذا الأمر رافقته الكثير من المشكلات التي دفعت بكثير من النقَّاد إلى تعميم غير دقيق بسوء وتردي مستوى كتابات الشباب، وبالتالي إهمالها.
فبات الشباب هو جمهور نفسه؛ لأن هذه الدائرة المجتمعية تكتب لنفسها ولنظرائها من نفس الدائرة، ويقرؤون لبعضهم البعض.
وهذا له عواقب خطيرة، مثل: تعزيز من حالة الإحباط والعزلة لدى هذه الشريحة المجتمعية -التي من المفترض أنها فاعلة- وبالتالي؛ المزيد من الفصام بينهم وبين المجتمع.
ومن بين هذه المشكلات، ضعف المواهب، وعدم الاهتمام باللغة العربية في أبسط قواعدها، ناهينا عن التراكيب والصور البلاغية التي تكسِب أي عمل قيمة وفخامة.
وزاد من حجم مشكلة التصنيف السلبي العام لكتابات الشباب، ميل بعض الناشرين إلى الكسب على حساب جودة ما يقدمونه من أصوات وأقلام، لمجرَّد الحصول على نظير النشر من "المؤلِّف"، فاختفت المواهب الحقيقية وسط بحرٍ من الخرافات التي تميل إلى الكتابة في مجالات الخرافة والجنس والأدب النفسي والرعب، وغير ذلك مما نجده الآن.
وهي بالمناسبة، ذات المجالات التي يذكر علماء النفس والاجتماع أنه يزيد الاهتمام بها في أوقات الأزمات والمشكلات والفوضى السياسية والاجتماعية؛ فإما أن ينزع الإنسان في مثل هذه الأحوال، إلى التديُّن الشديد، أو النظير العكسي له، التحرُّر المبالغ فيه في النواحي الأخلاقية والسلوكي، أو ميل النفس إلى عقلية الخرافة وتفاسيرها للظواهر والأحداث.
لكن ليست هذه هي المشكلة الوحيدة في كتابات الشباب؛ فلهذا الحديث جانب آخر، وهو عزوف الشباب عن الكتابة في المجالات الفكرية والبحثية، في المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية.
ويعود ذلك في حقيقة الأمر إلى عوامل موضوعية خارجة عن إرادة الجيل، مثل ضعف مستوى التعليم، وتوجيه الإعلام، وانغلاق منافذ الخدمة العامة، وهيمنة الدولة والحكومات على العمل العام، فقد خلقت هذه الأحوال مجموعة من الظروف والأوضاع التي دفعت بالشباب إلى العزوف عن الكتابة خارج حدود دائرة الكتابة الأدبية بشكل عام.
فالحكومات لا تستجيب في العادة لمخرجات ونواتج العمل البحثي والأكاديمي العلمي في المجالات العامة، مثل الإصلاح الإداري، أو إصلاح وظيفة العدالة والأمن، أو في الشؤون المجتمعية بشكل عام، أو في مجال إصلاح القطاعات الخدمية الأهم ذات الطابع الإستراتيجي، مثل التربية والتعليم، والصحة.
الحكومات لا تستجيب في العادة لمخرجات ونواتج العمل البحثي والأكاديمي العلمي في المجالات العامة، مثل الإصلاح الإداري، أو إصلاح وظيفة العدالة والأمن، أو في الشؤون المجتمعية بشكل عام، أو في مجال إصلاح القطاعات الخدمية الأهم ذات الطابع الإستراتيجي، مثل التربية والتعليم، والصحة
فسياسات الحكومات والأنظمة تسير في كافة هذه الاتجاهات وغيرها، وفق رؤية مرسومة تسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف تصب في غاية واحدة، وهي البقاء في الحكم.
يُضاف إلى ذلك ضعفٌ حقيقي للناتج البشري للعملية التعليمية، مما يقود بالفعل إلى إنتاج ضحل غير ذي كفاءة، وذو الكفاءة يعاني من الوضع السابق الإشارة إليها، فيعزف عن الخوض فيها.
وعلى العكس، فإن الاتجاه العام في مواقف جهات النشر الرسمية في عالمنا العربي، تشجِّع على خوض الشباب في مجال الكتابة، في مختلف المجالات التي تبعد عن الشأن السياسي والشؤون العامة بشكل عام، ولا يوجد سوى الأدب كمجال متاح في هذا الصدد.
فنجد سهولة نسبية في منح تصاريح النشر وأرقام الإيداع للكتب والأعمال الأدبية عن الأعمال الفكرية والسياسية، إلا أنه في مجال الكتابة الأدبية أيضاً لا تكون الأمور سهلة في حالة الروايات والدواوين الشعرية ذات الطابع السياسي أو يناقش قضايا الناس ومشكلاتهم بعمق "أكبر من اللازم" وفق رؤية الحكومة أو النظام الموجود.
وبالتالي - ووفق هذه المرئيات - فإنه بدلاً من نقد أدب الشباب، وانتقاد سطحية كتابات الجيل الحالي والجيل السابق عليه، من مواليد الثمانينيات والتسعينيات، فإنه من الواجب إيجاد رؤية لتصويب مساراته، وتحسين المستوى من الزاويا النقدية .
كما أنه لا تعني الأحوال العامة لمجتمعاتنا ولطبيعة الأنظمة والحكومات الموجودة، الركون إلى ما قادت إليه من ركود في مجالات الكتابة والفكر المختلفة، وإنما يمكن العمل في المنطقة الرمادية المسموح بها، وتطوير الكفاءات والمواهب الموجودة وتشجيعها، لحين تبدُّل الأحوال!