كان للإمام البنا أعظم الفضل في تغيير مسار الأمة ومحاربة واقع الفساد والتغريب، وردّ المسلمين إلى طريق الحق والإيمان، ودفع في سبيل ذلك ألواناً من المحن والابتلاءات
استطاع البنا أن ينجز بناءً دعوياً فكرياً سياسياً متماسكاً سماته التوازن والاعتدال والوسطية، وامتلك فكراً متكاملاً ورؤية عميقة مستوحاة من القرآن والسنّة جعلت جماعة الإخوان المسلمين تسير وفق خطط مدروسة في إطار سعيها لتحقيق الأهداف الإسلامية، ليشكل ذلك فتحاً نوعياً في العمل الإسلامي
لم يقتصر عمل وجهد الإمام البنا عند حدود التنظير والتوعية، وإنما تعداه إلى التغيير الميداني عندما ركّز على استئناف الحياة الإسلامية بطريقة مرحلية متدرجة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تُمثِّل البديل الإسلامي العملي
عُرِفَ على نطاقٍ واسع عندما أسس حركة الإخوان المسلمين أواخر القرن العشرين، جاهد ضدّ الاحتلال البريطاني لبلاده وقادَ تشكيلاتٍ عسكرية للدفاع عن فلسطين، وهو رائد الصحوة الإسلامية في العالم، حتى قيل إنّه صانع الشباب الذين نسفوا معسكرات الإنجليز على ضفاف القناة، وما زالوا بهم حتى أغروهم بالرحيل! وأنّه صانع الشباب الذين ما اشتبكوا مع اليهود في حربٍ إلاّ ألحقوا بهم الهزيمة وأجبروهم على الهرب، وخلال عشرين عاماً تقريباً صنع الجماعة التي صدّعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد ليُعرف باسم "مُجدّد القرن العشرين".
الإمام "حسن البنا" الذي مرت ذكرى استشهاده الـ ٧١، ورغم مرور كل تلك السنوات إلاّ أنّ بصمته وفكره ما زالا متوارثين بين الناس، فما هو الميراث الذي خلّفه "البنا" في الأمة الإسلامية أفراداً وجماعات؟ وما الذي أنجزه "البنا" ليحقق فتحاً نوعياً في العمل الإسلامي؟ وكيف تجلّت عبقرية "البنا" لتترك كل هذا الأثر الإيجابي العميق في واقع الأمة ومسار نهضتها؟
هذه الأسئلة وغيرها يُجيب عنها الدكتور أحمد بحر -رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني بالإنابة- وعضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" فإلى نص الحوار:
بصائر: كيف غيّر "البنا" مسار الأمة وحارب واقع الفساد والتغريب؟
د. أحمد بحر: لقد كان للإمام البنا أعظم الفضل في تغيير مسار الأمة ومحاربة واقع الفساد والتغريب، وردّ المسلمين إلى طريق الحق والإيمان، ودفع في سبيل ذلك ألواناً من المحن والابتلاءات عبر الملاحقة والاعتقال والتعذيب في السجون للجماعة التي أسسها وحظر العمل والدعوة لها واتهامها زوراً وبهتاناً بالإرهاب في العديد من الدول العربية والأجنبية، ومن ثم اغتياله في وضح النهار.
لقد حدد الإمام البنا الأهداف التي يفترض على كلِّ مسلمٍ أن يعمل من أجلها، وحدد معالم الشخصية الإسلامية من خلال أركان البيعة والواجبات التي تحتاجها الحركة لتحقيق الأهداف على ضوء المراحل، كما حدد الأصول التي تضبط الفهم والعلاقات ومعالم الطريق، فلا غلو ولا تفريط ولا اندفاع وراء السراب ولا تعطيل للسنن، عبر بناء الأخ المسلم ومن ثم الأسرة المسلمة ومن ثم المجتمع المسلم ومن ثم تحقيق الحاكمية لله والوصول إلى أستاذية العالم ونشر الدعوة في ربوع العالمين.
بصائر: ما هو أهم ما كان يُميّز الإمام البنا عن غيره؟
د. أحمد بحر: أهم ما كان يُميّز الإمام البنا همته الحضارية العظيمة التي دفعته دفعاً إلى البحث في خريطة المهام الحضارية الكبرى وإعداد نفسه لتحمل هذه المهام بما حباه الله من فضل، وأفاض عليه من علم وقدرات ومواهب متعددة، فكانت دعوته دعوة إحيائية تحيي موات الأمة، وتعيدها إلى النبع الصافي من القرآن والسنة بما كان له من قلب الزهاد وعقل النوابغ وفراسة العارفين ونشاط المصلحين وسمات الملهمين.
بصائر: ما الذي استطاع أن ينجزه "البنا" ليحقق فتحاً نوعياً في العمل الإسلامي؟ وما هو الميراث الذي خلّفه في الأمة الإسلامية أفراداً وجماعات؟
د. أحمد بحر: استطاع الإمام البنا أن ينجز بناءً دعوياً فكرياً سياسياً متماسكاً سماته التوازن والاعتدال والوسطية، وامتلك فكراً متكاملاً ورؤية عميقة مستوحاة من القرآن والسنّة جعلت جماعة الإخوان المسلمين تسير وفق خطط مدروسة في إطار سعيها لتحقيق الأهداف الإسلامية، ليشكل ذلك فتحاً نوعياً في العمل الإسلامي الذي ران عليه الجمود والتقليد فترة طويلة من الزمن.
لم يقتصر عمل وجهد الإمام البنا عند حدود التنظير والتوعية، وإنما تعداه إلى التغيير الميداني عندما ركز على استئناف الحياة الإسلامية بطريقة مرحلية متدرجة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تُمثِّل البديل الإسلامي العملي، في ذات الوقت الذي اشتدت به الحماسة للجهاد ضد أعداء الأمة، وخصوصاً المستعمر البريطاني في مصر، والاحتلال الصهيوني في فلسطين، وغيرها من بقاع الأمة المغتصبة.
لقد أرسى الإمام البنا أقوى نظريات العمل الإسلامي المتكامل الشامل في العصر الحديث من أجل نهضة الأمة والتمكين للإسلام وتحويل العمل للإسلام من ميدان القول إلى ميدان العمل ، وتقديم التجارب الناجحة والنماذج العملية التي تؤكد جدارة المشروع الحضاري الإسلامي بريادة العالم.كان الإمام البنا فريداً متميزاً في أساليبه التربوية المبنية على المفاهيم والمعاني الإسلامية، وكان الحب والأخوة في الله من أهم المعاني والمفاهيم التي جعلها أصلاً أصيلاً في التربية والبناء وعنصراً أساسيّاً في مكونات الشخصية المسلمة النموذجية، بل وجعل الأخوة ركنّاً من أركان البيعة العشرة التي يبايع عليها الإخوان المجاهدون ، فضلاً عن سعيه لتكريس قيم الرحمة والتكافل والتعاون وحرصه على إعلاء شأن الأخلاق الحميدة ودعوته للأخذ بأسباب القوة على المستوى الفردي والجماعي وعلى مستوى الأمة قاطبة.
بصائر: كيف تجلّت عبقرية "البنا" لتترك كل هذا الأثر الإيجابي العميق في واقع الأمة ومسار نهضتها؟
د. أحمد بحر: تجلت عبقرية الإمام حسن البنا في شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله ، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسة للدعاة والقادة الذين أجرى الله على أيديهم الخير الكثير، كما تجلت في تأثيره العميق في نفوس إخوانه وتلاميذه ونجاحه الباهر في التربية والإنتاج فقد أنشأ جيلاً قرآنياً فريداً وربى شعباً أصيلاً في إطار مدرسته التربوية الدعوية العلمية الفكرية التي تركت آثارها الإيجابية العميقة في واقع الأمة ومسار نهضتها.
بصائر: كيف اهتم "البنا" بقضايا العالم الإسلامي، وعلى رأسها قضية "فلسطين"؟
د. أحمد بحر: اهتم الإمام حسن البنا مبكراً بأحوال وقضايا العالم الإسلامي، وفي مقدمة ذلك قضية فلسطين ، فكانت كتائب الإخوان التي أبلت بلاءً مشهوداً في حرب فلسطين عام 1948، وقدمت نماذج مضيئة للأمة في الدفاع عن الأوطان والمقدسات ومقاومة المحتلين، وكان "البنا" أول من طرق أسماع المصريين عن قضية القدس وكانت جماعته أول من أنشأت صندوق القدس لجمع التبرعات للمجاهدين عام 1931م.
إن كلّ من عرف الإمام حسن البنا عرف فضل هذه الشخصية العظيمة وهذا الرجل الرباني الذي جدّد القرن العشرين وفاجأ مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوته وجهاده وقوته الفذّة رغم المحن والعراقيل التي حاولت ثنيه عن دعوته وتنكب دربها ومسارها، وأن يفخر بهذه الدعوة الإخوانية العظيمة التي قدمت الكثير للأمة، وضحت بقادتها ورجالاتها وفلذات أكبادها نصرة للحق والدين، وأحدثت من الخير العميم والتغيير الإيجابي في واقعها ما تعجز عن وصفه العقول والألباب.