أشد ما ابتُلي به الإنسان المعاصر وقوفه مكتوف اليدين مرتقباً تقلبات الأقدار أو حدوث التغيير في الأنفس وسائر العباد وشتى البلاد، وكأنّ التغيير غيث منهمر من السماء، أو كما العصا السحرية أو مصباح علاء الدين، لا أنه حركة دؤوب وسعي متواصل في النفس والمجتمع وفي المحيط الذي تبلغه ولايتنا أو مسؤوليتنا، وانظر وتفكر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
والتغيير في أي مجال لا بد أن يبدأ بخطوة يخطوها العبد في طريق سعيه فلا بد من وضع الخطوة الأولى وإظهار الاستعداد النفسي للتغيير ، بل لا بد من اعتقادك اليقيني إزاء موقف أو فكرة بأنها غير صواب؛ لكي تملك القوة والاستعداد لتغييرها، والفرد دائماً هو وسيلة التغيير في أي مجتمع؛ لأنه الحجر الأساس، فإذا ما تغير الفرد تغيرت الأسرة التي توَجْه لإنشائها... وهكذا تتسع دائرة التغيير، وعملية التغيير تقوم على أساسين:
الأول/ هدم ما في النفس من أفكار ومعتقدات باطلة، لأنه لن يقدم المرء على استبدال فكرة في نفسه أو نسف معتقد إلا إذا كان يملك شجاعة الاعتراف ببطلانها، وبالتالي شجاعة الاستعداد لتبديلها وتغييرها.
والثاني/ ترسيخ المعاني والأفكار والمعتقدات بعد إزالة الباطل منها والمبادرة بالتغيير عملياً وسلوكياً على أرض الواقع فلا تظل حبيسة الأفكار والأمنيات.
وبؤرة التغيير ومركزه ووسيلته هو الفرد في الأساس وإن كانت الآية الكريمة نسبت التغيير للمجموع في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد:11] فلا يعني ذلك إغفال وتهميش الفرد؛ فالله سبحانه يوجه سعي الإنسان لنفسه أولاً بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس:9] {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [فاطر:18]، وهل المجموع إلا عبارة عن أفراد متعددين اتفقوا على مبدأ وفكرة معينة وسعوا إلى تطبيقها في مجتمعاتهم بعدما رسخت في نفوسهم ومعتقداتهم؟
والمتتبع لنصوص الشرع من كتاب وسنة يدرك أهمية الفرد في عملية التغيير بل ومحوريته، فتأمل الآية الكريمة بعدما جاء فيها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} تبع ذلك: {حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} فمناط التغيير في النفس هو واجب الفرد؛ فكل فرد مناط سعيه ومسؤوليته هو نفسه التي بين جنبيه، وينضم الأفراد بعضهم إلى بعض تماماً كما حبات اللؤلؤ تنضم لتجتمع في عقد بهي ثمين أو كما قطرات الماء بتجمعها تصنع نهراً وهكذا الأفراد في اجتماعهم يكون التغيير الذي يغير الله به واقعهم بناء على تغيير ما في أنفسهم.
ومن شواهد ذلك: سيدنا إبراهيم يحطم الأصنام ويترك كبيرها ليلقي عليه الفعل بذلك وكأنه يحطم ما في معتقدات القوم بأن من لم يفلح بالدفاع عن نفسه كيف يحق أن يكون معبوداً، ليوجه أفكار القوم للتأمل بأن المعبود هو الذي يملك الضر والنفع ناهيك أن تصله يد مخلوق بنفع أو ضر.
وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قامت دعوته في مكة على البلاغ والدعوة وتغيير ما في القوم من معتقدات وعادات وهدم عقيدة الشرك وغرس عقيدة التوحيد من خلال النظر في النفس والآفاق، بل إن أولى خطواته في الوطن الجديد لدعوته وصحابته كانت تغيير ما في أنفس القوم، وذلك بالإخاء بينهم وتخليص نفوسهم من أدران العصبية القبلية واستبدالها بالأخوة في الله وتقديم أخوة العقيدة على أية رابطة أخرى.
وتغيير ما في النفس هو الكامن خلف موقف سحرة فرعون، فبعد أن كانوا خانعين لجبروته وقوته أذلاء صاغرين أمامه أصبحوا بالحق أحراراً مستعلين على بطش وجبروت فرعون، فبين عشية وضحاها تتغير مواقف القوم وعقائدهم وسلوكهم، يقول تعالى: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] بناء على تغيير ما في نفوسهم، وهو نفسه ما حدث مع القوم المؤمنين في قصة أصحاب الأخدود بل إن التغيير الذي حدث في نفوسهم كان له السلطان الأكبر على تصرفاتهم وسلوكهم، فتجدهم يقتحمون أخاديد النيران نجاة بمعتقدهم مؤثرين الحفاظ على إيمانهم على سلامة حياتهم التي كانوا يحيونها من قبل، فالتغيير بدأ دورته من الأفراد فتأمل.
ويشاء اللّه أن يغير ما بقوم من نعمة وسراء إلى بلاء وضراء بناء على تغيير في سلوكيات أفراد تماماً كما حدث في غزوة أحد عندما خالف الرماة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالثبات في مواقعهم، فانقلب النصر إلى هزيمة وقعت نتيجتها خسائر فادحة في صفوف المسلمين، وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير... كما غير اللّه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم" (تفسير القرطبي) وهذا دلالة على أهمية الفرد وأنه كل منا على ثغر من الثغور فلا يخترق هذا الثغر إلا إذا تغير ما في نفس المرابط عليه.
ولن يكون هذا التغيير النفسي فعالاً وذو أثر ومدخلاً لتغيير المجتمع إلا إذا تبعه صاحبه بسعي صادق وحركة دؤوب وذلك من خلال مواجهة الفساد كما قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" (رواه أبو داوود)، وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا سعي على أرض الواقع في سبيل التغيير وإحقاق الحق ورفض الباطل؟
أن يغير الإنسان من نفسه ويقف عند حدودها فلا يتجاوزها وينفصم عن مجتمعه فهذا تغيير مبتور يسير إلى حتفه، وإلا ما فائدة تغيير المرء لنفسه موليا وجهه عن قومه مديرا ظهره لجماعته
ولكن أن يغير الإنسان من نفسه ويقف عند حدودها فلا يتجاوزها وينفصم عن مجتمعه فهذا تغيير مبتور يسير إلى حتفه وإلا ما فائدة تغيير المرء لنفسه موليا وجهه عن قومه مديرا ظهره لجماعته، وهل يتمكن الفرد من الحفاظ على تطبيق معتقده وأفكاره في حياته الخاصة والمحيط الذي من حوله يموج فسادا ناهيك عن تغيير القوانين والأنظمة من حوله بمعزل عن جمع يتبنى ما تبنى هو من أفكار ومبادئ؟
فعندما أعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء وصياغة أفكار أتباعه ومعتقداتهم وبالتالي سلوكهم وتوجه للمدينة وقتها استطاع أن ينشأ من المجموع الذين آمنوا به دولة تقيم شرع الله في معاملاتها وعباداتها وأنظمتها فكان أن وضعت الأسس للمجتمع الجديد من بناء المسجد مروراً بالإخاء وحتى كتابة الوثيقة التي تنظم صلات الدولة الفتية بمن حولها من دول وقبائل ومع الطوائف التي تشاركها البقعة الجغرافية وحتى إرسال الرسل والرسالات للدول الأخرى لتطبق عالميتها، فالبداية كانت فردا فتكونت من الأفراد الجماعات التي بلغت شتى بلدان العالم وقتذاك فبعدما غيرت ما بنفسها غير الله واقعها واستبدل ذلها عزة وتمكينا ونشر الله بهم الرحمات وأخرج من خلالهم الناس من عبادة العباد لعبادة رب العباد ومن جور الأديان لعدالة الإسلام.