إننا نتخذ بالضرورة موقفاً -شعورياً أو لا شعورياً- ممّا وممّن حولنا، استحساناً أو استهجاناً أو غير ذلك، ويتشكّل في أنفسنا حكم أو توصيف ما، تجاه مختلف ما نتعرّض له في حياتنا اليومية مما نسمع ونرى، سواء وَعَينا ذلك أم لا.
فإذا تفكّرنا في منشأ أحكامنا ومواقفنا ومشاعرنا، نجد أن منبعها مُدخلات سابقة غُرست فينا على مدى سنوات عمرنا، مثلاً: لَعْقُ الأصابع بعد الأكل مذموم عند البعض لمخالفته عُرف الذوقيّات الاجتماعية أو "الاتيكيت"، ومقبول عند من نشأوا طبعاً على تلك العادة، ومُستحسن عند من يهتمون بالسنَّة النبوية، وبعض طرق الجلوس -كرفع الساقين- قد تُقبَل وسط فئة من الناس دون فئة، وهكذا تختلف مُدخلات كلٍّ منا ومدى سلطانها على نفسه، بحسب عمق ومتانة ما بنيت عليه: من ذوق سائد وعرف مجتمعي، أو بيئة تنشئة، أو قناعة ثقافية، أو مسلك تَدَيُّني... إلخ.
فإذا استعملنا مصطلح "المرجعية" بدل "المدخلات"، تبيّن لنا جليّاً كيف أنّ كل إنسان بالضرورة يَرجِع في كافة أحواله الفكرية والوجدانية والسلوكية لمرجعية ما، أيّاً كان مورد -أو موارد- استمدادِه لها، وسواء كان واعياً بكلّ مفردات تلك المرجعية التي تَحكُمه أم غير واعٍ، وبَحَسَب اختلاف الناس في موارد مرجعياتهم، يكون اختلاف تَشكُّل هُوّياتِهِم، واختلاف مواقفهم وتعاملاتهم مع ما ومن حولهم.
كل إنسان بالضرورة يَرجِع في كافة أحواله الفكرية والوجدانية والسلوكية لمرجعية ما، أيّاً كان مورد - أو موارد - استمدادِه لها
ويمكن التمثيل لهذه الخلاصة بالرسم التالي:
ولا إشكال عندنا -مَعشَر المسلمين- في مبدأ المرجعية، وإنما الإشكال أن المرجعية السائدة بيننا اليوم ليست هي الإسلام حقّاً رغم انتسابنا إليه ، وإنما هي عجين هجين من ثقافات سطحيّة وتصوّرات مُجتزأة وأفهام خاطئة، نستقيها في الأساس من موردين متضاربين في غالب مادتهما مع أصول الدين الذي هو رأس مرجعية المسلم وأساسها:
المورد الأول/ الأعراف والقوالب المجتمعية
بين كلام الناس، وظنّ الناس، ورأي الناس، وضغط الناس، وأفهام الناس، لا نهاية ولا نُضوب لهذا المورد الأساسي والمَنهل الحَتميّ! فكم ممّن يعيش حياته وِفق النهج السائد لمجرد أنه النهج السائد ، ولا يراجع نفسه في دافع ما يفعل، أو سبب ما يترك، أو باعث ما يختار، مُكتفياً بـ "عُزوة" المحيط حوله، بل وقد يُلزِم نفسه (وربّما أهله معه) مِن المعايير والتكليفات والمسؤوليات ما قد لا يَلزَمه أبداً على الحقيقة، لكن لأنّ هذا هو الواقع السائر حوله فلا بد أن يَسرِيَ عليه بالتّبَع، أو يُسَيِّره هو على نفسه، ليشعر أنه بدوره سائر!
مثلاً: كم ممن يعيشون مُكدَّرين تعساء في سعي مُستميت لتحقيق أحسن عيشة، فيلهثون وراء تحصيل كلّ ما جرى العرف بأنه الأوجه والأغلى والأفخم لمجرد أن العرف جرى به، دون أن يتفكروا: هل يعنيهم ذلك في معيشتهم هم على الحقيقة؟ وهل الأوجه مجتمعياً هو حقّاً الأفضل معيشياً؟
وكم ممّن يستهلّ والِدَيّته بطموح تربية أولاده "أحسن" تربية، وتعليمهم "أحسن" تعليم، وتوفير "أحسن" معيشة لهم... ثم تكون ترجمة ذلك الحسن بإرسال النشء للدوران في سواقي أغلى المدارس الخاصة أو الأجنبية، بما يتطلّب من الوالد استنزاف عمره في الدوران في السواقي الوظيفية لتأمين النفقات، ومن الوالدة الانكفاء على الخدمة المنزلية لأهل الساقية الأولى والثانية، وهكذا كلّ يدور في ساقية الحُسن الوَهميّ، دون أيّة وقفة للتساؤل الجاد: ما هو وجه الحسن في تلك المعمعة من أية جهة؟ وهل الأحسن عُرفاً هو دائماً الأصلح عاقبة؟ من فكر في أن يُعرّف بنفسه لنفسه ما هو الأحسن في معيشته هو؟ وهل يستحق الثمن المبذول في سبيله من كَبَد وصحة وعمر وأوقات وترتيب أولويات؟
ويأتي في الجزء التالي بإذن الله تفصيل الكلام على المورد الثاني.