أنا سيدة في الخامسة والثلاثين من عمري، دائماً راضية عن نفسي وسعيدة، لكنني في الفترة الأخيرة أصبحت أشعر بأن حالي لا يعجبني، فلست سعيدة بمنزلي ولا وضعي الاجتماعي ودائماً أود تغيير كل شيء لما هو أفضل منه، منزعجة دائماً، واكتشفت أن هذا بسبب كثرة الإعلانات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فأنا أتابع الكثير من المشاهير الذين يروجون لمنتجات وأصناف وملابس، الأثاث الذي يعرض في موقع التواصل أجمل من أثاث منزلي، كيف أخرج من هذه الدوامة، كيف أهذب نفسي على القناعة؟
_____________________________________
الإجابة: الباحثة والإعلامية سلام فرتيخ.
بداية، مما لا شك فيه أن شبكات التواصل الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً في بناء مفاهيم المتلقين وتشكيل الرأي العام، وهي بطبيعة الحال تعد وسيلة من وسائل الإعلام وأداة مهمة من أدوات إيصال ونشر المعلومات سواء المسموعة أو المقروءة أو المرئية أو عن طريق الأخبار والتقارير والأفلام الوثائقية والمسلسلات، ومن ضمن تلك الوسائل الدعاية والإعلان.
وقد يرى البعض أن الدعاية أوسع من الإعلام، وذلك أن الإعلام يعد أحد وسائل الدعاية التي يتم اللجوء إليه في محاولة التأثير في شخصيات الأفراد والسيطرة على سلوكهم ونشر الأكاذيب والفظائع والتهويل في الأخبار وبذل العهود الكاذبة والأحلام المعسولة، بينما الإعلام هو تلك العملية التي يترتب عليها نشر أو تزويد الجمهور بالأخبار والمعلومات والحقائق التي ترتكز على الصدق والصراحة، ومخاطبة عقول الجماهير وعواطفهم السامية، والارتقاء بمستوى الرأي العام، وذلك بتنويره وتثقيفه، لا تخديره وخداعه، وبناء على ذلك فإن الإعلام هدفه نقل المعلومات والأخبار إلى الجمهور دون إجراء أي تغيير على تلك الأخبار والأحداث، بينما الدعاية تغير مضمون وشكل الأخبار والمعلومات لغرض التأثير في الجمهور المتلقي وخداعه.
والذي يعنينا حقاً من تلك المفارقات هو مدى مصداقية المادة الإعلانية/ أو الإعلامية ومدى احترامها لعقلية المشاهد ومدى التأثير النفسي للدعاية والإعلان على المتلقي، فهي تتحكم بعقله الباطن وتدفعه لسلوكيات استهلاكية سليمة أو غير ذلك.
وقد أكدت هذا الدراسات العلمية، ففي كتاب "اللاوعي لدى المستهلك" يقول البروفيسور جيرالد زالتمان: "إن 95% من قرارات الشراء تتخذ دون وعي المستهلك؛ ذلك لاستخدام وسائل خداع تصل إلى سويداء مركز اتخاذ القرار وهو ما يسمى بالعقل الباطن" وكدليل على هذا، يستشهد البروفيسور بسلسلة من الأبحاث منها تناقض أقوال المستهلكين بأفعالهم، فبينما يدعي هؤلاء تحكيم العقل والمقارنة حين الشراء، إلا أنهم عند التسوق يندفعون لأخذ المنتج الذي يريدونه كأنهم ينصاعون لتأثير مسبق ترسخ في أعماقهم.
وتؤكد هذا التأثير النفسي بعض الاستطلاعات التي أجراها بعض الباحثين، فمثلاً تكشف رئيسة لجنة تأليف مناهج علوم الأسرة والمستهلك - الأستاذ المساعد في كلية التربية الأساسية في جامعة الكويت - د. هيفاء العنجري في دراسة لها عن الاستهلاك في الكويت: "أن 79% يعتمدون العشوائية مقابل 14% فقط يعتمدون التخطيط قبل التسوق".
وقد أجري استبيان في محيط اجتماعي صغير طرح بعض الأسئلة على عينة الاستبيان منها:
• إذا كنت أمام سلعتين واحدة تظهر بالإعلانات وأخرى لا ترى لها إعلاناً أيهما تشتري؟
• هل تصدق ما يظهر في الإعلان عن ميزات سلعة ما؟
• هل تضطر لشراء سلعة تحت ضغط أطفالك فقط لكونها تظهر في الإعلانات؟
وكانت الإجابات كما يلي:
• أجاب 60% من العينة على السؤال الأول بأنهم يشترون السلعة التي تظهر في الإعلان: (30% أكدوا ذلك، 30% قالوا أحياناً!)
• أجاب 45% من العينة على السؤال الثاني وقالوا إنهم يصدقون ما يظهر في الإعلان بينما قال 55% منهم أنهم لا يصدقون ذلك وأنهم يحتاجون للتجربة.
• أجاب 85% من العينة على السؤال الثالث بأنهم يشترون السلعة تحت ضغط الأطفال إذا كانت تظهر في الإعلان أحياناً، بينما أكد 10% منهم أنهم لا يخضعون لمثل هذا الضغط.
هذا الاستبيان البسيط، وهذه النتائج ما هي إلا نموذج يظهر مدى التأثير النفسي الخطير للدعاية والإعلان والذي يؤدي بالمستهلكين إلى شراء حاجيات ليسوا بحاجة حقيقة لها فعلاً، ولكن التأثير الطاغي للإعلانات يدفعهم إلى التهور الاستهلاكي إذا صح التعبير دون أن يدروا.
ومن الآثار السلبية للدعاية والإعلان على المتلقي:
• المبالغة التي قد تصل أحياناً الى درجة غش العميل وتضليله.
• التوظيف غير اللائق للعنصر النسائي، واستغلال الأطفال.
• الهيمنة على وسائل الإعلام بما يؤثر على رسالتها ومصداقيتها.
• تقديم نماذج سلوكية رديئة وعادات استهلاكية غير مرغوب فيها.
• ترسيخ الشعور بالإحباط وعدم الرضا لدى أسر هانئة قانعة بالكفاف والستر.
• إفساد الود بين الأطفال وذويهم.
لقد أفرزت الدعاية والإعلان نتائج خطيرة على السلوك الإنساني؛ فهي اهتمت بكل شيء إلا بإنسانية الإنسان، وتعاملت معه كأنه آلة يُتحكم بها عن بعد، لتحقيق مصالح خاصة لفئة معينة من البشر دون مراعاة لإنسانية المتلقي ودون مراعاة لظروفه الاقتصادية، الأمر الذي قد تعاني منه أغلب الأسر المتوسطة والفقيرة وما السائلة إلا نموذج من تلك الأسر.
إن من حق الشركات التسويق والدعاية لمنتوجاتها طالما أنها مشروعة وتحترم آدمية المستهلك المثير للجدل هو انتشار بعض الوسائل الإعلانية التي تستخدم تقنيات الخداع السمعي والبصري والتي طُورت للتأثير على سلوك المستهلك دون إدارك واع لذلك!
وطالما أنه حق مشروع في عالم التسويق والدعاية ضمن الاعتبارات الاقتصادية والنفسية للمستهلك يبقى الرهان اليوم على عقلية المتلقي الذي وجب عليه أن يكون أكثر وعياً وإدراكا لما يعرض أمامه من مواد إعلانية فلا يقع فريسة الإعلانات الجاذبة والخادعة والتي تهدف إلى تحقيق مكاسب مادية دون مراعاة لجودة المنتج ودون مراعاة لظروف المواطن واحتياجاته.
كما وجب علينا أن ندرك جيداً أننا جميعاً - بلا استثناء - ربما نقع في هذه المطبات اللامعة والبراقة، كما وجب علينا أن نتدارك ما قد نقع فيه في هذا العالم الأزرق فقد بتنا نقدم محتوى نافعاً وغير نافع.
وكم هو جميل أن ندرك أن عالمنا الافتراضي ما هو إلا وسيلة إعلامية ننقل من خلالها نجاحاتنا وإخفاقاتنا وتجاربنا ليتعلم منها غيرنا ونتبادل أفكارنا وثقافتنا؛ لأنه وللأسف الشديد قد يحقق البعض شهرة براقة لكنها شهرة فارغة لا تستند إلى عالم حقيقي بل تستند إلى فقاعات في الهواء لا تلبث إلا أن تختفي سريعاً.
فكما يقول المثل الإنكليزي: "الذي يأتي بسهولة يذهب بسهولة"، وأنا أقول "الذي يأتي سريعاً يذهب سريعاً" بتحقيق شهرة فارغة دون أن تستند إلى واقع معاش فسوف تذهب هذه الشهرة في مهب الريح.
اعلموا جيداً يا أصدقائي أن مخلفات تلك الشهرة الزائفة مخلفات وخيمة على أصحابها، فكم سمعنا عن المشاحنات والنزاعات بين المشاهير، وكم نسمع يومياً بمصطلح جديد ما يسمى الحسد الإلكتروني، وكم خسرنا علاقات صادقة من ويلات تلك الحروب الإلكترونية، وكم ولّدت عداوات حاقدة خاصة عندما تتزاحم المصالح والأهداف الشخصية، فالكل يسعى إلى تسابق محموم وأنانية مفرطة لتحقيق أهدافه وبغيته في لفت الأنظار إليه دوناً عن غيره.
على السائلة وعلينا جميعا استثمار أوقاتنا بالأمور النافعة والمفيدة فالوقت الذي نقضيه في تتبع الدعايات للفاشنيستات الأفضل أن نقضيه في تعلم مهارات جديدة ولغات جديدة مثلا عبر اليوتيوب أو متابعة ما نحبه من برامج مفيدة.
علينا أن ندرك جيداً أن عالم التسويق والدعاية هو عالم له قوانينه وله حيثياته الخاصة بمن يعمل بهذا المجال ففي نهاية المطاف الهدف منه هدف ربحي من أجل تحقيق مكاسب مادية فعلينا أن لا نصدق كل ما يعرض أمامنا.
علينا ان نعمل على تحقيق أهدافنا وتوصيل رسالتنا فكلما كنا صادقين في ذلك، كلما أدركنا جميعاً عظم الأمانة التي استخلفنا الله من أجلها في الأرض، فحققنا رضا الله عنا ثم رضانا عن أنفسنا.
لا أقول لكم دعكم من العالم الافتراضي، لكن كونوا أنتم كما أنتم بلا زيف ولا خداع، قدم محتواك الذي تعيشه بشخصيتك العفوية المرحة، والجادة المتزنة، ولا تنس أنك مستخلف في الأرض معمّر لها، ولا تنسَ أن الله قد وهبك ما لم يهب غيرك، فاستثمر ذلك في حياتك الواقعية واخدم نفسك ومن حولك فلكل مجتهد نصيب، ولا تنظر إلى ما آل إليه هذا الناجح وذاك، وتذكر كم كانت هي بداياته الصعبة، ولا تحكم على نهاياته المميزة، فأنا أؤمن جيداً بأن لكل بدايات محرقة نهايات مشرقة، حينها فقط تشعر بالسعادة والطمأنينة، وتذكر قوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].