لا يستطيع منصف أن ينكر فضل الحركة الإسلامية في حفظ دين الأمة في تلك الفترة الحرجة من تاريخها الطويل، تحديداً في المائتي سنة الأخيرة بداية منذ ظهور الاستعمار الذي اجتاح بلاد العرب ولم يخرج منها إلا بعد استنفاد مقدراتها.
مشوار طويل بذلت فيه الحركة الإسلامية جهداً جباراً أذكته بدماء قادتها وجنودها عبر الحقب المتوالية بدأت بظهور الشيخ جمال الدين الأفغاني ثم الشيخ محمد عبده فالأستاذ رشيد رضا الذي تتلمذ على يديه الشيخ حسن البنا -رحمه الله- مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.
ومنذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين التي عنيت بتحويل الفكر النظري المجرد لحركة عملية في الشارع المصري ومنه إلى الشارع العربي والإسلامي، تحول الإسلام اللاهوتي المسجدي لفعل وحركة وجهاد ومقاومة للاستعمار ومعارف وسياسة واجتماع، تحول الإسلام لحركة إيجابية في الشارع، وغير صورة الإسلام الصوفي المنتشر في وقت إنشاء الجماعة، لم تكتف الجماعة بتصحيح مفاهيم الدين لدى الناس، وإنما قدمت بطولات أسطورية في تحرير البلاد من ربقة الاستعمار الإنجليزي.
ثم في الثمانية والأربعين بفلسطين ولولا خيانة الحكام وقتها وإجبار الإخوان على العودة ثم اعتقالهم وإيداعهم السجون وقتل المرشد المؤسس البنا -رحمه الله - ومنذ ذلك الوقت تعرضت الجماعة لمحن متعاقبة، كانت تخرج في كل مرة أصلب عوداً وأكثر حنكة، ففي محنة 54، 67 انتشرت الجماعة في ربوع العالم، ونشأ التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ونشأت المدارس الفكرية، وانتقل الفكر العربي لحالة من الوعي الديني غير مسبوقة في العصور الحديثة، مما استعدى الأنظمة عليها ليكيلوا لها الاتهام بالإرهاب، ويبدؤوا التصفيات وشحذ وسائل إعلامهم ضد الجماعة التي نجحت في تصدر المشهد السياسي لفترة خاصة بعد الربيع العربي لتدخل في محنة ربما هي ليست الأشد على الإطلاق، لكنها نجحت أن تكون قاصمة، قسمت الصف، وأوقفت الحراك، وأشعلت الصراع بين فئتين عظيمتين من فئاتها ألا وهي الشباب والقيادات.
المحنة العالمية للحركة الإسلامية
كان قدر الحركة الإسلامية المعاصرة أن تواجه الهجمة العالمية على الدين الإسلامي في كل أقطار المسلمين وتدفع الثمن من أرواح أبنائها ودمائهم ، فما بين مواجهة الاتهام بالإرهاب، وما بين التآمر للحد من نفوذها وتأثيرها داخل الشارع الإسلامي عامة والعربي خاصة خضعت للتصفية الجسدية العنيفة، ثم الاعتقال والمطاردة والإخفاء القسري والفصل من الوظائف للتنكيل بأعضاء الحركة وتخويف البعيدين عنها من الاقتراب أو الانخراط في صفوفها، تزامن ذلك مع حملة دولية لمحاولة تفريغ نصوص الدين الإسلامي من غرضها، ودعوات لحذف الآيات التي تحض على الكراهية من وجهة نظر الآخر، يقصدون بذلك آيات الجهاد وسير الصحابة والتابعين والفتوحات الإسلامية كل ذلك سبق ما يسمى بصفقة القرن التي تمثل وعد بلفور جديد بانتزاع ما تبقى من فلسطين على عين العالم، بينما المسلمون منشغلون في صراعهم الداخلي مع الأنظمة!غير أنه بالرغم من تلك الحرب التاريخية الشرسة وهذه المحنة الضارية إلا أن تلك الصفقة المشبوهة تولد ميتة وذلك لشيء ربما لم ينتبهوا إليه -أو قللوا ما استطاعوا من شأنه- وهو أن الحركة الإسلامية -وإن ظنوا أنهم قضوا عليها بعبثهم- نجحت في تكوين جيش فلسطيني بإمكانات محدودة، جيش العزة والكرامة في غزة، وأن هذا الجيش يمثل النموذج المصغر لجيش كبير كان يمكن أن يتكوّن إذا ما أتيحت الفرصة للحركة لاستكمال مشروعها التنموي في الوطن العربي، غير أن الضربة الموجعة حالت بينها وبين ذلك.
وبالرغم من الكمون الظاهري للحركة الإسلامية على الساحة العربية في بعض أقطارها خاصة، إلا أن الخصم يتصرف بشراسة عجيبة، مما يوحي بأنه يعي جيداً أن ذلك الكمون ما هو إلا سكون ما قبل العاصفة، لقد درس الخصوم الواقع جيداً، وتيقنوا أن حالة الوعي الذي صنعته الحركة الإسلامية على مدى عشرات السنوات الماضية لن تذهب سدى، وأن عليهم إذا أرادوا أن يبقوا فلن يكفيهم مطاردة عناصر الإسلاميين وحدهم، وإنما عليهم أيضاً أن يواجهوا الشعوب مجتمعة.
لقد درس الخصوم الواقع جيداً، وتيقنوا أن حالة الوعي الذي صنعته الحركة الإسلامية على مدى عشرات السنوات الماضية لن تذهب سدى، وأن عليهم إذا أرادوا أن يبقوا فلن يكفيهم مطاردة عناصر الإسلاميين وحدهم، وإنما عليهم أيضاً أن يواجهوا الشعوب مجتمعة
نعم تأثرت الحركة الإسلامية في هذه المحنة بشكل كبير، وانقسمت بشكل حقيقي تحت أسماء وشعارات مختلفة، واعتراها ما يعتري الكيانات من وهن وصراع الداخلي، لكن إرادة الله التي تتوافق ورفعة هذا الدين تقيض له قادة يجددون للأمة أمر دينها كلما وهنت، فلا استبدال، بل تجديد من رحم المحن لتبعث من جديد بشكل أكثر فتوة وأشد بريقاً.
ما يجب على قادة التغيير ومفكري الأمة في الفترة المقبلة
إن أول مراحل العلاج هو الاعتراف بالداء كي يتسنى لأصحاب الخبرة علاجه، فإن المريض إذا تكابر على الاعتراف فلا يجدي معه أي دواء نفعاً .إن أعراض الداء واضحة جلية مع ردة الفعل الغريب والتعاطي مع القضايا المحورية للأمة، ومع حالة الجمود الحادث تجاه الأفعال العالمية نحو قضية الإسلام وقضية الأمة، وواضحة كذلك في ردود الأفعال المتفاوتة بين العنف المصطنع في غير محله، والخنوع الخاضع لإرادة العدو.
إن الحركة الإسلامية جزء متأصل من الأمة، وما هي إلا صورة مصغرة للمجتمع الإسلامي، فإن هي وهنت فالوهن في الأمة مستشر وكبير، وإن هي قويت فما بعدها صلاح وتمكين ، ولست أدعي أن الحركة الإسلامية تنوب عن الأمة، وإنما هي قاطرة الحركة بها، تقودها ولا تنوب عنها، توجهها ولا تستغني عن وجودها، تسير بها، ولا تتحرك بدونها، لذلك فدراسة الحالة الآنية يجب ألا تكون في منأى عن مشكلات وتحديات الأمة الإسلامية الكبيرة، وهنا يظهر لنا سؤال: هل تعاني الحركة الإسلامية من تخلف في منهجها ويجب عليها تغييره وتطويره؟ أم أنها تعاني تخلفها هي وتجاوزها المنهج الذي وضعه البنا والتخلي عن بعض الثوابت فأصابها ما أصابها؟إن الجواب المتجرد عن هذا السؤال سوف يختصر مسافات كبيرة من المرض إلى العلاج، ومن الانحراف إلى الاستقامة، إن الادعاء بأن كل شيء على ما يرام، وعدم التفرقة بين محنة الابتلاء للانحراف غير محنة الابتلاء للاستقامة، هو العامل الأكبر في عدم استدراك أخطاء الطريق، ورفض التعلم من دروس الماضي التي تتكرر بشكل غريب في كل محنة، ويتكرر نفس ردة الفعل لنصل لنفس النتائج في كل مرة.
وفي هذا الخضم أطرح مجموعة تساؤلات يجب أن تجيب عليها قيادات الحركة اليوم، أو المتاح منهم خارج حدود المعتقلات سواء في الخارج أو الداخل:
-هل المشكلة في الفهم لدى أكثرية الشباب؟ أم أن المشكلة في تفسير ركن الفهم من قبل القادة اليوم؟
-هل المشكلة في فهم الثقة لديهم؟ وما الذي أدى لفقدان الشباب لدى الشباب فخرجوا عن مقتضيات الركن؟
-هل المشكلة في فهم ركن الطاعة؟ وأكرر السؤال فمن دفعهم للخروج عن تطبيق ركن الطاعة؟
-هل يتم شرح الأركان والعمل بها وفق ما أراده البنا المؤسس؟ أم أن مجموعة الأركان صار يتم العمل بها وفق الأهواء ولصالح بعض القيادات التي آثرت القعود وانتظار النصر من السماء بحجة أن الحركة أدت ما عليها، وأن أفرادها تعبوا وآن لهم أن يستريحوا؟
-هل يحق لأفراد الصف الإسلامي أو المتصدرين للمشهد العام أن يقولوا إنهم تعبوا وعليهم التماس بعض الراحة والنصر يأتي من عند الله؟ أليس هذا ما يطلق عليه في الشرع الاستبدال؟
-أين ركن الجهاد الذي يمثل أساساً في شعار الحركة الإسلامية والذي حافظت عليه منذ نشأتها "الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا" وأقصد هنا الجهاد بمفهومه الشامل، الذي يستوجب العمل ليل نهار إن لم يكن جهاداً بالسيف فبالكلمة، وأضعف الإيمان بالقلب، وهذا يستدعي عدم الاندماج في السكون حتى يظهر الله الحق؟ فهل تم تعطيل شعار السيفين والمصحف ليصيرا مصحفاً فقط، وبذلك تكون الحركة قد تخلت عن جانب كبير من جوانب الإسلام؟
-هل اكتفت الحركة بما قدمته من تضحيات؟ إن دين الله يستوجب على المسلم العمل حتى آخر أنفاسه وحتى يلقى الله وهو قائم به؛ فإقالة النفس هي استقالة من العمل لدى الله.
-هل يعترف قادة الحركة أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وأنهم إذا أخطؤوا فلهم أجر وإذا أصابوا فلهم أجران ولا عيب في الخطأ، ولا عيب في الاعتراف به، ولا عيب على من يوضح لها أخطاءها كي لا تتكرر، وكي نخرج من تلك المحنة بأقل الخسائر، أو بأكبر مكاسب؟
-هل تدرك القيادات ذلك أم أنهم يستنكفون من الاتهام بالوقوع في الأخطاء ويستكبرون على الاعتراف بها وكأنهم فوق البشر، بل وفوق الصحابة الذين قالوا لعمر بن الخطاب: إن اعوججت هكذا، قومناك بالسيف هكذا؟ فلم يغضب عمر، ولم يخف الصحابي؟ ولم يثر عليه أحدهم بأنه سوء أدب أو يتطاول على أسياده وقادته، فهل تدرك القيادات ذلك؟
- هل يدرك قادة العمل الإسلامي أن عليهم مسئولية رأب الصدع، ولملمة الشمل، والاستماع إلى الآخرين عسى أن نجد حلاً لما استعصى علينا؛ فالإشكالية لا تخصنا وحدنا، وإنما هي مهمة كل مسلم على وجه البسيطة؟ هل عندهم استعداد لجمع علماء الأمة والاستماع منهم وإليهم للخروج من الأزمة التي تنعقد على حلها إنقاذ الأمة؟
-هل يستعد الشباب والمخالفون أن يحكموا طرفاً ثالثاً من العقلاء، فيسمعوا له ويطيعوا إذا توصلنا لحلول تجبر الانكسار، وتعيد للأمة مجدها وللحركة قوتها ولُحمتها؟
كثير من الأسئلة التي أثيرها عسى أن نجد قلباً منصتاً يهب لنجدة الصف المهلهل، وليس إلى ذلك من سبيل سوى بالتجرد من الجميع قادة وصف، الخارج والداخل، الرجال والنساء؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ إنها صرخة عسى أن يقدر الله لها الوصول لقلب مؤمن فيستجيب.