القرآن الكريم هو أساس عقيدتنا، وهو النبع الرئيس الذي ننهل منه في حياتنا كمسلمين، ونسعى من خلال تعاليمه إلى هداية الإنسانية، ونشر النور بين أرجائها.
وهو رحمة، ونور وبرهان؛ فبنزول القرآن الكريم وبَعْثِ محمد بن عبد اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قطع اللهُ تعالى سُنَّة كانت سابقة على نزوله، وهي سُنَّة إهلاك الأمم؛ فقد صارت الأرض كلها مجتمعَ دعوة، ومجالاً مهمّاً لنشر النور والأخلاق والفضيلة التي جاء بها هذا الدين.
وجاءت السُّنَّة النبوية، شارحةً له، والمنوال التطبيقي للتعاليم القرآنية، سواء الحديث النبوي أو السيرة النبوية الشريفة مما وقر يقيناً بصحته، ومما يتسق مع النسق القرآني العظيم.
وتطرح علينا بعض الأمور والتطورات الراهنة في الفضاء المجتمعي والثقافي الإسلامي، بعض النقاشات الواجبة عن كيفية التعامل مع هويتنا الإسلامية وإبرازها، من هذه الزاوية (زاوية الصورة التي عكسها القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة).
وهذا أساس ثابت في عقيدتنا كمسلمين، أن تكون سياقات حياتنا، والأسس الفكرية والعقدية التي ننطلق منها، مأخوذة من المصدرَيْن الأساسيَّيْن: القرآن والسُّنَّة. يقول تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النِّساء:59]، ويقول أيضاً في ذات المعنى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83].
ولعل من أهمها، ونجد أنه قد وقع فيها الكثير من الشطط والتفريط في العقود الأخيرة، قضية التوازن.
والتوازن المقصود هنا، هو أن يعكس الخطاب الدعوي حقائق الحياة ويعترف بقوانينها، بالتوازي مع طرح محتوى الشريعة في مختلف أقسامها، وبالتالي، لا يقدم صورة مثالية من دون النزول إلى الواقع.
وهو بالأمر الضروري في هذه المرحلة التي وصلت إليها الإنسانية من تطورات عميقة في مختلف المجالات "الحضارية" ومنها على سبيل المثال التطورات الاجتماعية والإنسانية التي قاد إليها التوحُّش الرأسمالي والنيوليبرالية، في المجال القيمي والأخلاقي، وفي المجال المتعلق بزيادة معاناة الناس بسبب الفقر والفاقة واللجوء.
وكذلك في المجال العلمي الذي بات يدير العقل، وقاد بالفعل إلى إسناد لتيارات الإلحاد بدرجاته المختلفة، بدءاً من الإيمان الهش وحتى الإلحاد الكامل الذي ينفي حقيقة وجود الإله، في ظل غياب رؤية إسلامية توازن بين اعتبارات العقيدة وما تطرحه المكتشفات العلمية من تحديات.
كذلك التوازن يكون في قضية أخرى نجدها واضحة كذلك في القرآن الكريم، وهي: {بَشِيراً وَنَذِيراً} وهي عبارة نجدها نصّاً في القرآن الكريم أربع مرات، وخامسة في سُورَة "المائدة"، الآية (19) بصيغة {بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ}.
فنحن نرى الآن من الدعاة تحت وطأة حماسة معينة، أو انبهاراً بالغرب ومذاهبه الجديدة، مثل مذهب الانتماء الإنساني وطروحات التسامح وقبول الآخر -وكلها قيم يدعو إليها الإسلام، ولا ننكرها- يعمل على إبراز جانب واحد من الدين وأركان التصور الإسلامي للحياة والوجود بشكل قد يخرِج الإسلام عن دوره الضابط لسياقات الحياة الإنسانية.
أو نجد الشطط، أي جانب لا يركز في الشريعة إلا على النذير والحديث عن صور النار والعقاب، وأن الإسلام ليس فيه سوى الجهاد، وجهاد السيف، بينما القرآن الكريم تحدَّث عن 18 صنفاً من الجهاد، منها ما يتعلق بالجوانب التربوية والاجتماعية.
نحن نرى الآن من الدعاة تحت وطأة حماسة معينة، أو انبهاراً بالغرب ومذاهبه الجديدة، مثل مذهب الانتماء الإنساني وطروحات التسامح وقبول الآخر يعمل على إبراز جانب واحد من الدين وأركان التصور الإسلامي للحياة والوجود بشكل قد يخرِج الإسلام عن دوره الضابط لسياقات الحياة الإنسانية
يرتبط هذا الشطط بمحور الحديث الرئيس في هذا الموضع، وإن كان ما تقدم ليس بمقدمة مطولة؛ فهو في صلب الموضوع.
ترتبط المدرسة الدعوية السابقة، بشقٍّ شديد الأهمية والخطورة في الصورة التي تنقل عن الإسلام والمسلمين، وهي التعالي، والتعالي مختلف عن العلو؛ لأن المصطلح معبّأ بالكثير من المعاني السلبية، ويرتبط المصطلح بسمات لا تجوز إلا لله عز وجل، مثل الكبرياء والعزة.
وهنا -ومن دون حرجٍ- نقول: إنه عندما كان حتى المسلمون في قرون النهضة الإسلامية والسيادة الإسلامية على الحضارات الأخرى في مختلف الجوانب، بما في ذلك عناصر قوة الدولة الأساسية بالمعاني الحاضرة في العلوم السياسية المعاصِرة، مثل التقدم العلمي، والنهضة الاقتصادية والتنموية، والقوة العسكرية، وكلها هي ما يمنح الأمة -أية أمة- السؤدد والسيادة، وهي المكونات الأساسية التي تصنع المدنية والمدينية، وهي أرقى صور العمران البشري والاجتماع الإنساني، نقول إنه في هذه الفترات التي شهدت أوج قوة دولة المسلمين؛ كان هناك ما يبرر هذه الصيغ من الطرح.
ولكننا، وفي زماننا المعاصر نعيش مرحلة تخلف وتراجع حضاريَّيْن، وتشرذم كبير لم يحدث في تاريخ المسلمين؛ فقد وصل الأمر إلى اقتتال المدينة والمدينة، وليس اقتتال الدول والكيانات الكبرى، مع عدم وجود إسهام واضح للمسلمين في عجلة النهضة والتنمية الحضارية على مستوى الإنسانية.
وهذا ليس عيباً أن نعترف به، بل إنه واجب شرعي أن نعترف به، وإلا ظللنا ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام، ومصلحة المسلمين وهذا الدين ومشروعه، تقتضي منَّا هذا الاعتراف.
وبالتالي، فإننا عندما نقدِّم للناس أنفسنا كمسلمين، ونشعر بالفخر لكوننا مسلمين، ونعيش حياتنا وفق التصور الإسلامي، ونسعى إلى السيادة به، ونصدِّر لهم الصورة التي يمكن تقريبها مما قدمته أشعار الفخر والحماسة في الأدب العربي القديم، فإن ذلك يقتضي منا أن نقدم لهم أمرَيْن أساسيَّيْن.
الأمر الأول/ هو أن نريهم كيف قادتنا الحياة وفق التصور الإسلامي، إلى التقدم والتطور، والأمر الثاني/ وهو منبثق عن ذلك، هو ماذا سوف نقدم لهم من مزايا لو انضموا إلى قافلة الإسلام في حياتهم الدنيا، بكل مشتملات ذلك، بما في هذا ما يتناسب مع جوانب عديدة لا ينكرها الإسلام من الحياة وفق المذهب المادي.
فجزء أصيل من حديثنا عن توازن التصور الإسلامي والشريعة الإسلامية، هو في أنه دينٌ وشريعة يعملان في كل الاتجاهات لتحقيق مصالح الناس، بل إنه غائب عن كثير من دعاتنا حقيقة شديدة الأهمية، وهي أن الشريعة وأحكامها بشكل مخصص ودقيق، إنما نزلت من لدن اللهِ -عز وجل- لأغراض عديدة، منها تحقيق مصالح البشر، وتوجيههم في حياتهم بما يحقق السلام، ويحق الحق بين ظهرانيهم .
وهناك منطق قديم عند العرب يؤيد ذلك، وهو أنه "لكلِّ مقامٍ مقال"، ولا يمكن بحال أن نتكلم عن السيادة والسؤدد، من دون أن نمتلك أسبابهما، وقضية الأسباب محورية ومركزية في قوانين الخلق التي وضعها اللهُ تعالى.
وجاء وصف "الأَعْلَوْنَ" للمسلمين في القرآن الكريم، في موضعَيْن: الأول/ في حالة مُخصَّصة، وهي حالة الحرب، فيقول اللهُ تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] والحرب في الإسلام لها قواعدها واشتراطاتها التي تجعلها عادلة، فيكون العلو هنا بما مع المسلمين من حق، وبما يلتزمون به من قواعد واضحة تماماً في القرآن الكريم والحديث النبوي للحرب، وهي مدونة إنسانية لم يصل إليها القانون الدولي الإنساني في وقت الحرب حتى الآن.
الموضع الثاني الذي ورد فيه هذا الوصف، هو في الآية الكريمة: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وهي عبارة ذات سياق عام.
والمعنى فيها واضح؛ فإن علو المسلمين مرتبط بالإيمان ، وهي نقطة ينبغي الوقوف عندها؛ فالإيمان مرتبة أسمى من إسلام المرء، يقول تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحُجُرات:14].
وهنا أمر مفاهيمي على أكبر قدرٍ من الأهمية يجب أن نعرفه كمسلمين؛ فبالرغم من أهمية قوانين الأسباب، إلا أن اللهَ تعالى في تعامله من الأمة المسلمة في التقييم، وفي إقامة وإدالة دولتها وحضارتها، يربط ذلك بالإيمان أيضاً؛ لأنها أمة التكليف، وهي أعلم من غيرها بما يصح ولا يصح، وما يجوز ولا يجوز، وبالتالي، فهي تُحاسَب على إيمانها وما إذا كانت عملت به أم لا.
والعلو المقصود في هذه الآية القرآنية الكريمة، مقصود به أن نقدِّم النموذج الذي تسود به الأمة، ويسمو به المشروع الإسلامي على ما عداه، من خلال التزام المسلمين بقواعد الإيمان، والتي تشمل العقيدة الصحيحة، والعمل الدائب.
فإننا عندما نتبنى خطاباً حماسيّاً متعالياً أمام الآخر، ولو كان هناك معنىً إيجابياً في التعالي بالدين؛ فإننا يجب أن نفهم أن ذلك لن يكون إلا بتقديم النموذج، وأن نقدم الإيمان للناس، وأن نسعى إلى تحقيق الرسالة الحقيقية للإسلام والدعوة إليه وسط الناس، وهي ما جاء به محمد بن عبد اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - ومن سبقه من أنبياء ورسل اللهِ تعالى، وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، لا التعالي عليهم وقتلهم على الإيمان!
عندما نتبنى خطاباً حماسيّاً متعالياً أمام الآخر، ولو كان هناك معنىً إيجابياً في التعالي بالدين؛ فإننا يجب أن نفهم أن ذلك لن يكون إلا بتقديم النموذج، وأن نقدم الإيمان للناس، وأن نسعى إلى تحقيق الرسالة الحقيقية للإسلام والدعوة إليه وسط الناس
فاللهُ ربُّ الكون، وربُّ العزة سبحانه الذي خلقنا، وقادر على أن يجعلنا هباءً منثوراً، وأن يدمِّرنا، قادرٌ على أن يعيدنا إلى العدم، يقول لعبدٍ من عباده: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46].
هذا اللهُ تعالى -الذي هو الله جل جلاله- يعظ عبده نوح -عليه السلام- وكان يستطيع أن يأمره فيمتثل ولا يعقِّب.
بل إن هذا هو منهج اللهِ تعالى في وعظ البشرية، مؤمنها وكافرها، برّها وفاجرها، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النَّحل:90] ويقول أيضاً: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} [النساء:58].
والخطاب القرآني لدى الكثير من المفسِّرين، لا يخص المسلمين فحسب بل فيه الكثير والكثير من الآيات التي تخاطب البشرية بالكامل.
هذا منطق الخالق وطريقته، بينما نجد بين ظهرانينا أقواماً وأناساً يقتلوك لكي تؤمن.
مع أن العقل الإنساني يأبى هذا المنطق، الذي هو منطق الجاهلين، فكُفَّار ومشركو مكة عندما عذبوا المسلمين الأوائل، نطق بعض المسلمين بكلمة الكفر تحت طائلة التعذيب، بينما كان قلبه مطمئناً بالإيمان، ولم ينقض ذلك عقيدته، بل طمأنهم النبي - عليه الصلاة والسلام - في ذلك.
فكيف تضمن أنت أن يؤمن أحدهم حقّاً بإكراهك! الإيمان في أساسه، هو قناعة، وهذه يمكن ببساطة أن يخفيها الناس عن بعضهم البعض.
بطبيعة الحال، يتصل بذلك قضية أن الهداية من اللهِ تعالى، وأن ما علينا إلا البلاغ والدعوة بالحسنى، وأن المحاسبة على العقيدة، وعلى العمل هي حقٌّ أصيل للهِ تعالى لا ننازعه فيه، ولكن لهذه الأمور مواضع أخرى من الحديث تناولناها فيما سبق، وفي بعض المواضع الأخرى.