رحم الله الدكتور محمد عمارة، الفيلسوف المفكر الإسلامي الموسوعي المحقق الذي وافته المنية يوم الجمعة الموافق 28 فبراير عام 2020م، الموافق 4 من رجب لعام 1441هـ.
فأما عن كونه فيلسوفًا، فهو المتخصص في الفلسفة الإسلامية، حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1975م.
وهو المفكر، لأن لفظ (فلسفة) ووصف (فيلسوف) يعبران أول ما يعبران عن ميراث أوروبي غربي له امتداد تاريخي يوناني قديم. ولفظ (فكر) ووصف (مفكر) يعبران أفضل ما يكون التعبير عن الفلسفة الإسلامية، وعن الفلاسفة المسلمين.
فالمفكرون الإسلاميون هم فلاسفة الإسلام، وعلى رأسهم يأتي الدكتور محمد عمارة رحمه الله.
والفرق بين المفكر الإسلامي (الفيلسوف الإسلامي) وبين الفيلسوف عمومًا، هو أن الفيلسوف يترك لنفسه العنان في التفكير في أي قضية في عالم الغيب أو في عالم الشهود دون اهتداء بوحي إلهي من نص قرآني أو نبوي، أما المفكر الإسلامي (الفيلسوف الإسلامي) فهو الذي يُعمل عقله للنظر في كل القضايا منطلقًا من أرضية إلهية، توفر له هذه الأرضية أرضًا ثابتة يقف عليها ليطول ما يريد أن يطوله، ثم ليهتدي بهذا الهدي الإلهي في رحلة سيره ناحية الحقائق والمعاني.
وأما كونه إسلاميًا، فهو المفكر الإسلامي، الذي نافح بفكره عن الفكرة الإسلامية ضد الأفكار العلمانية واليسارية وغيرها.
وحسنًا اصطلح المُحْدثون على وصف أبناء الفكرة الإسلامية بالإسلاميين، وهو اصطلاح موفّق، أستغرب ممن يهاجمونه من الإسلاميين أنفسهم.
وهؤلاء الذين يهاجمونه يقولون: إننا في غنى عنه بلفظة (مسلم). أي أن نقول مثلا (مفكر مسلم وفيلسوف مسلم).
وهذا _في رأيي_ ليس رأيًا موفقًا، فلفظة مسلم تعني صفة الدين والعقيدة التي ينتمي إليها المفكر والفيلسوف، وكثير من المفكرين المسلمين والفلاسفة المسلمين علمانيون ويساريون، وبعيدون جدًا عن الفكرة الإسلامية وعن المنهجية الدينية.
أما اصطلاح (إسلامي) فهو الذي يعبر أفضل ما يكون التعبير عن المفكرين والفلاسفة المسلمين الذين يعتقدون بالفكرة الإسلامية والحل الإسلامي لإدارة هذه الحياة في جميع جوانبها ومناحيها.
وأما عن كونه موسوعيًا، فيأتي هذا الوصف من كونه رحمه الله قد ألف مؤلفات تقترب من المائة وخمسين مؤلفًا، وهو عدد لا يستطيعه الكثيرون من علماء ومفكري ومؤلفي العصر الحديث.
وإننا لنسمع عن العالم والمفكر الكبير في عالم اليوم، وعند البحث عن مؤلفاته لا نجد ما يزيد على العشرة أو العشرين مؤلفًا.
وأمثال الدكتور محمد عمارة رحمه الله قليلون نادرون، ونستطيع أن نقول أنه لم تحدث حادثة ذات بال في أمة الإسلام في العصر الحديث إلا وكتب عنها الدكتور محمد عمارة، ولم يخرج كاتب يهاجم الفكرة الإسلامية إلا ورد عليه الدكتور محمد عمارة في حينه وفنّد أفكاره.
لم تحدث حادثة ذات بال في أمة الإسلام في العصر الحديث إلا وكتب عنها الدكتور محمد عمارة، ولم يخرج كاتب يهاجم الفكرة الإسلامية إلا ورد عليه الدكتور محمد عمارة في حينه وفنّد أفكاره
وموسوعية الدكتور محمد عمارة تأتي كذلك من أنه كتب في الفلسفة والفكر والتاريخ والرجال والسياسة والاقتصاد.
وأما عن كونه محققًا، فلأنه رحمه الله قام بعمل جليل للمكتبة الإسلامية لم يسبقه إليه غيره، فلقد جمع ورتب وحقق وعلق على الأعمال الفكرية الكاملة لكثير من أساطين المفكرين المسلمين والإسلاميين في العصر الحديث، مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي وعلي مبارك.
كما كتب عن آخرين، شارحًا ومحققًا ومعلقًا على أفكارهم ومنتجهم، مثل الشيخ محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي والدكتور السنهوري وأبي الأعلى المودودي.
وكتب الكثير من المؤلفات حول الحركة الإسلامية وفكرها ورجالها، والحقيقة أنه كان أحد أبناء هذه الحركة، وإن لم يكن فردًا منظّمًا فيها.
لقد خسرت الفكرة الإسلامية، وخسرت الحركة الإسلامية، وخسر المشروع الإسلامي، واحدًا من أكبر الأعلام، وأكبر المفكرين المعاصرين.
عندما بدأ الشيخ محمد الغزالي في الكتابة يوم أن بدأ، بعث إليه الشيخ حسن البنا يقول له: اكتب وروح القدس تؤيّدك.
ولما أن تحوّل الدكتور محمد عمارة التحول الفكري الذي نقله من الماركسية واليسارية إلى الإسلام والإسلامية، وأصبح مفكرًا إسلاميًا يكتب بروح الإسلام، بعث إليه الشيخ الغزالي برسالة يقول له فيها: اكتب وروح القدس تؤيدك.
ولما توفي الشيخ الغزالي، شد الشيخ الشعراوي في عزائه على يد الدكتور عمارة وقال له: لعل الله أن يعوضنا بك عن الشيخ الغزالي.
وقد كان الدكتور محمد عمارة نعم العوض عن الشيخ الغزالي، وخير خلف لخير سلف.
كان كالشيخ الغزالي: مفكرًا إسلاميًا وسطيًا، من أبناء الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامي، ومن أبناء الحركة الإسلامية حتى وإن لم يكن من أبنائها التنظيميين، تماما كما كان الغزالي، عليهما رحمات الله.