المجتمعات اليوم أشبه ما يكون حالها باللاهثة وراء السراب والماء من بين يديها متدفق زلال، ولكن كل ما تحتاجه هو وقفة متأنية بعيدة عن التكبر ثم وضع الأمور في نصابها ومراعاة ترتيب الأولويات في حياتها.
والعالم اليوم وإن كان قد بلغ ذروته في التقدم التكنولوجي مفتخرًا بإنجازاته التي ضاقت بها الأرض حتى صعد ليستكملها فوق القمر وسائر الكواكب السيارة إلا أنه ما زال عاجزا عن إعداد البنية الأساسية وأداة التقدم الفعلية ألا وهي الإنسان.
لذا لا عجب أن تجد الداء يكمن في الدواء والعكس كذلك، فالإنسان إن كان بنية المجتمعات الأساسية وحجر الزاوية في تقدمها ورقيها والعامل الفاعل في بنائها فتجده إذا أُهمل وحاد عن دوره كإنسان صار من أكبر عوامل الهدم في مجتمعه بل وأخطرها، وهذا الإنسان أساسه من شقين الرجل والمرأة فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال" (رواه أبو داود)، فالمرأة شق الرجل وصنوه بل وهي المدرسة التي تتخرّج كل الأجيال على يديها فإن كانت المرأة هي نصف المجتمع فهي حقيقة لها دور أساسي في تشكيل وإعداد وتربية النصف الثاني، فصار المجتمع كله في محضنها وحجرها .
ورحم الله القائل: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" (رواه البخاري)، فأن تناط بها مسؤولية الأسرة رعاية وتربية وإعدادًا فوالله إن ذلك من أعظم مظاهر تكريمها، إذ جعلها اليد الأمينة الحافظة لأهم لبنة في المجتمع وهي الأسرة، كما أن دورها هذا الذي أوكلها الله به هو مظهر من مظاهر أهمية المرأة ودورها، فإن كان الرجل يسعى ويجابه شقاء الحياة وبناء الأجساد بلقمة العيش الكريمة الحلال وتأمين مقومات أسرته، فإن المرأة بجانب مشاركتها له هذا العبء إلا أنّ لها دورًا لا يقل أهمية بل لا نبالغ إن قلنا أن دورها أخطر وأكثر أهمية إذ يناط بها بناء فكر الإنسان ووجدانه، فإذا اختل الإنسان في فكره ووجدانه ماذا تراه يغني عنه كمال جسمه؟! والإنسان إنسان بعقله وروحه وغير ذلك عوامل مساعدة له في رسالته بهذا الوجود.
ومن يدرك حقيقة هذا يعلم السبب في تسليط الضوء والعمل الحثيث على إفساد المرأة وإخراجها من دورها الذي كلفها الله به لا ليسقطها هي فحسب بل لتهوي بهويها المجتمعات عن بكرة أبيها، لذلك افتعلت قضية المرأة افتعالاً ووجهت طاقات كثير من النساء إلى معارك وهمية لا أساس لها تحت مسميات الحرية والحقوق والمساواة لينتزعوها من الثغرة التي لا تصان إلا بها ويصرفوها عن الحدود التي لا تخترق إلا بسقوط المرأة واختراق حصونها.
افتعلت قضية المرأة ووجهت طاقات كثير من النساء إلى معارك وهمية لا أساس لها تحت مسميات الحرية والحقوق والمساواة لينتزعوها من الثغرة التي لا تصان إلا بها ويصرفوها عن الحدود التي لا تخترق إلا بسقوط المرأة واختراق حصونها
فالمرأة هي المحضن التربوي الذي ينشأ بين ضلوعه وعلى عينه الإنسان السوي المدرك لرسالته وغايته في الوجود، ومن يشكك في هذا أو يقلل من أهميته إما جاهل يجهل حقيقة الحياة والغاية منها ابتداء، أو عابث متلاعب بالحقائق مشوّه لها؛ غايته تحرير المرأة لا من الظلم الذي ارتكب بحقها نتيجة لقصور أفهام البعض وإنما ليحرّرها من إنسانيتها لتصبح سلعة رخيصة سهلة المنال له ولغيره ممن مُسخت فطرتهم فصاروا أشباه بشر.
والرد على الجاهل تكون بتبصيره وتعليمه حقيقة الأمر وإحالته على نصوص الشرع التي تبين أن الله عز وجل خلق الرجل والمرأة من نفس واحدة لا فضل لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى، ودونه القرآن والسنة وسيرة المصطفى فليبحر بهما لينظر أهمية المرأة في جميع جوانب حياتها وأن الإسلام المحرر الحقيقي للمرأة منذ اللحظة التي قرر بها حقها في الحياة فحرم وأدها وجعلها مساوية للرجل في الكرامة والتكليف والجزاء.
أما العابث المتاجر في قضايا المرأة، فإن رد سفهه ودحض حججه يكون بالآتي:
أولا: قولك بامتهان المرأة وظلمها مدحوض بأدلة كثيرة لك أن ترجع إليها إن كنت حقيقة حريصًا على المرأة وطالبًا للحكمة وللقول الفصل بأمرها دونك تراث المسلمين من قرآن وسنة صحيحة، أقبل على دراستهما متجردًا من الأحكام السابقة ومن الشبهات التي أعمت بصيرتك والحكمة ضالة أي باحث عن الحقيقة أنّى وجدها أخذها ولو كانت على غير هواه ومزاجه.
ثانيا: دونك صفوة البشرية ومنارة الهداية والنور أنبياء الله ورسله وكيف كان من بينهم من أوكل الله للمرأة رعايته وتعهده والقيام على شؤونه، موسى، عيسى، ومحمد أفضل الصلوات والسلام عليهم جميعًا، وهم من أولي العزم فلو كان الدين ينتقص من المرأة ويقلّل من شأنها أتراه يوكل لها حياة مثل حيوات أولئك الرسل المصطفين من عند الله فضلاً عن أن يعهد لها بتربية والقيام على شؤون مَن دونهم.
ثالثا: دونك الواقع الذي يتنقل من دركات السقوط والانحطاط لدركات أعتى سقوطًا وانحطاطًا، وتأمل هل تحرير المرأة وفق النموذج الذي ترّوج له ساهم في بناء المجتمعات في كافة نواحيها أم أنه سجل أعلى معدل في تفكك العلاقات الاجتماعية والانحرافات الخُلقية وبالتالي انتشار قانون الغاب الذي يأكل فيه القوي الضعيف ويستعبد الغني والفقير، في حين حافظت المجتمعات التي تدرك المرأة فيها رسالتها ودورها على إعداد الإنسان الذي هو بمثابة القلب النابض لأي مجتمع والحصن المنيع له والذي سيظل عصيًا على الكسر ما دامت المرأة من خلفه شامخة عزيزة.
ازرعوا في قلوب بناتكم أنهن مصدر القوة لمجتمعاتهن وأنهن الأساس الذي إذا كان سليمًا كان سائر البناء سليمًا وأنهن السياج والحصون المانعة لمجتمعاتهن فلا تخترق إلا باختراقها فكرًا ووجدانًا، وأن المرأة عزيزة قوية شامخة بدينها وأن من كمال حرية المرأة القيام بما أوكلها الله به وحفظ ما استرعاها عليه ، وأي حرية تنطلق من غير هذا إنما هي عبودية واسترقاق ولكن بحلة جديدة وتحت مسمى حديث، وأن التوازن في المجتمعات إنما يكون في قيام كل فرد منّا بمهامه الأساسية وإعطاء الأولوية لدوره بداية.
وأن التبرم من أدوارنا هو ضعف على وجه الحقيقة، وقيمة المرء ونجاحه إنما يكون بمدى إخلاصه للوظيفة التي اؤتمن عليها والقيام على الثغر الذي أوقفه الله عليه لا بتركه مكشوفًا بحجة البحث عن دور جديد نسعى من خلاله لإثبات ذواتنا، فهلّا أتمّ كل واحد منا مهمته وقام بدوره ليعود التوازن لحياتنا فتبرأ مجتمعاتنا ونفوسنا من أسقامها وعللها؟!