إن من الغرائز التي أودعها الله تعالى في الكائنات -وعلى رأسها الإنسان- غريزة التزاوج وإنجاب الذرية بل وحب الذرية حباً يفوق ما سواها من المخلوقات، وإن أي تدخل لمنع هذه الغريزة لا يجر سوى الوبال على الأفراد والدول وبالتبعية على الكائنات كلها.
قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
أولاً/ ثقافة الإنجاب والحفاظ على النسل في ميزان الشرع
إن حب الذرية جعل نبي الله إبراهيم -عليه السلام- يدعو ربه قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].
وجعل نبي الله زكريا -عليه السلام- يدعو ربه قائلاً: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:5، 6].
ولقد جعل الله تعالى حب الذرية والدعاء لها من صفات عباد الرحمن : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
وجعل الله تعالى الزواج وإعالة الذرية سنة من سنن المرسلين جميعاً ، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
وجعل الله تعالى كثرة الذرية من النعم التي تستوجب الشكر ، لذلك ذكَّر بها نبي الله شعيب -عليه السلام- قومه قائلاً: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف:86].
وجعل الله تعالى الذرية من الهبات والمنن التي يمتن بها على عباده، فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84].
وجعل الله تعالى حفظ الذرية من المقاصد التي من أجلها أرسل الرسل؛ فقد اتفق العلماء على أن مقاصد الشريعة خمسة، وهي: حفظ (الدين، النفس، العقل، النسل، المال).
ورغب النبي ﷺ في الزواج والإكثار من الذرية، فعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: "جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ إنِّي أصَبْتُ امرأةً ذاتَ حسبٍ وجمالٍ ولكنَّها لا تلِدُ أفأتزوَّجُها؟ فنهاه ثمَّ أتاه الثَّانيةَ فقال مثلَ ذلك فنهاه ثمَّ أتاه الثَّالثةَ فقال مثلَ ذلك فقال ﷺ: تزوَّجوا الوَدودَ الوَلودَ فإنِّي مُكاثِرٌ بكم" (صحيح ابن حبان).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "تزوجوا الودودَ الولودَ فإني مكاثرٌ بكم الأممَ يومَ القيامةِ" (رواه ابن حبان في المقاصد الحسنة بإسناد صحيح).
ومن فضل الله تعالى أن جعل الذرية الصِّغار أرق أفئدة وأسرع استجابة للحق، قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83].
وجعل الله تعالى الخوف على الذرية من الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الكائنات وفي مقدمتها الإنسان، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
وجعل الله تعالى من حكمة تعدد الأزواج زيادة النسل وكثرة الذرية، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء:3].
أخرج البيهقي في "سُننه"، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "والله إني لأُكرِه نفسي على الجماع رجاء أن يُخرج الله مني نسمة تسبح".
وجرَّم الله تعالى إفساد النسل وتوعد فاعله بالعقاب وبالعذاب الأليم فقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ لْمِهَادُ} [البقرة: 205، 206].
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء:31].
ونهى النبي - ﷺ - والخلفاء من بعده عن قتل الصغار أو النساء أو الشيوخ في الحروب.
عن الأسود بن سريع -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "ما بالُ أقوامٍ جَاوَزَهُمْ القَتْلُ اليومَ حتى قَتَلوا الذُّرِّيَّةَ؟ فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ: إِنَّما هُمْ أوْلادُ المُشْرِكِينَ فقال: ألا إِنَّ خِيارَكُمْ أبناءُ المُشْرِكِينَ، ثُمَّ قال: ألا لا تَقْتُلوا ذُرِّيَّةً، ألا لا تَقْتُلوا ذُرِّيَّةً، قال: كلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ على الفِطْرَةِ حتى يُعْرِبَ عَنْها لسانُها فَأَبَوَاها يُهَوِّدَانِها ويُنَصِّرَانِها" (رواه أحمد).
وورد في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ عندما ناله المشركون بالأذى وناداه ملك الجبال -وقد أمر من ربه- فقال: "إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ؟ فقالَ النبيُّ ﷺ: "بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ، لا يُشْرِكُ به شيئاً" (صحيح البخاري).
ولقد جعل الله تعالى من عقاب المشركين من الأقوام السابقة استئصالهم هم وذريتهم فقال: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133].
ثانياً/ فوائد الإنجاب وزيادة النسل في ميزان الواقع
إن الإكثار من الذرية ليس شراً مُطلقاً كما تروِّج لذلك بعض الدول الغربية وبعض الحكومات العربية، وإلا ما حثنا الشرع على الإكثار من الذرية، بل في الإكثار من الذرية الخير الكثير الذي نذكر منه:
1. إن الزيادة السكانية مطلب ديني كما أشرنا، وكذلك فهي مطلب وطني ودنيوي يجعل الدول الإسلامية تصل للاكتفاء الذاتي من العِمالة الوافدة؛ لأن هذه العمالة تستنزف خيراتها وتُحدث خللاً في البنية السكانية كما تُحدث تداخلاً في الثقافات وما يترتب على ذلك من مشكلات عديدة.
2. الزيادة السكانية يترتب عليها التوسع الأفقي وزيادة نسبة العمران وفتح مجالات عمل جديدة وتنوع في نوعية التعليم فيترتب على ذلك الاكتفاء الذاتي في التخصصات العلمية والتكنولوجية وكافة التخصصات.
3. الزيادة السكانية تُكسب الدولة هيبتها ومكانتها بين دول العالم لما يحدث بين الدول من تبادل تجاري يعود بالنفع على الطرفين.
4. كلما زاد معدل السكان زاد عدد الجيش النظامي للدولة مما يُكسِبها المكانة والقوة والهيبة بين الدول، بل ويجعل الدول تنشد وُدَّها نتيجة للتكتلات التي تسعى دول العالم لتحقيقها.
5. كثرة الزيادة السكانية يُولد داخل كل فرد روح المنافسة في كافة المجالات باعتبار أن الأحقية في أي مجال وأمام أي فرصة ستكون للأفضل مما يترتب على ذلك تفجير الطاقات وصقل الامكانيات وتطوير المهارات.
أخيراً أقول
إن هناك من يحدون من الإنجاب لا لعذر شرعي ولا لعذر صحي ولكنهم يتعللون بضغوط الحياة وظروف المعيشة وغير ذلك من الأمور، والواقع يقول أننا نحن من نتسبب في تأزم الظروف المعيشية ونزيد من الضغوط بمعارضتنا للفطرة السَّوية التي تجعل المرأة تلزم بيتها، تدير أموره وتربي أطفالها وتراعي حق زوجها، وإذا اضطرت الظروف المرأة للخروج للعمل فليكن في مجال لا ينال من عفتها ولا من حيائها، ولا يكون خروجها للعمل على حساب المهمة الأساسية المنوطة بها .
إن المرأة حين هجرت بيتها وزاحمت الرجل في ميادين لم تخلق لها، وحين طالبت بحقوق تشقيها بل وتهينها، تفرَّقت بها السبل ووقفت حائرة بين مفترق الطرق فلا هي حافظت على أنوثتها وكيانها وأخلاقها، ولا هي أدت حقوق زوجها، ولا أحسنت تربية أبنائها، فماذا كسبت إذًا.
عن أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: "لَا تُكَلِّفُوا الْمَرْأَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ فَإِنَّكُمْ مَتَى مَا كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا وَلَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ وَعِفُّوا إذَا أَعَفَّكُمْ اللَّهُ وَعَلَيْكُمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا" (كتاب المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي).
إننا إذا احتكمنا للشرع الحنيف في إدارة شؤون بيوتنا، وسِرنا على نهج سلفنا الصالح في ثقافة الإنجاب، وأحسنا تربية النشء كما أحسنوا، لارتقينا كما ارتقوا، ولسُدنا كما سادوا، وإلا كيف نريد أن نكون مثلهم ونحن نهجر نهجهم وننهل من ثقافات ومفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان!