قالوا عن شعر أبي العتاهية: "فشِعْره كسَاحة المُلوك يقع فيها الجوهر والذَّهب، والتُّراب والخزف والنَّوى". قاله الأصمعيِّ.
هكذا أرى كتاب "المسلمون والحضارة الغربية" لمؤلفة الدكتور الشيخ سفر الحوالي، وهو السجين الآن- فك الله حبسه.
أو قل: مثل كتاب إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله، بجامع ما بينهما من الجمع بين الفوائد العظيمة التي لن تراها عند غيره، مع الشطح والطامات والأخطاء الجسام.
هو كتاب ضخم جاوزت صفحاته الثلاثة آلاف، حشد فيه مؤلفه كل ما جال بذهنه عن علاقة الإسلام مع الغرب، وقسمه إلى الأجزاء التالية:
1. المقدمة وتعريف الحضارة
2. تفوق الحضارة الإسلامية ومميزاتها وموجز للتاريخ العقدي في الإسلام
3. تجديد الإسلام بالدعوة السلفية
4. الفكر الديني عند الغرب
5. الفكر السياسي في الإسلام
6. الفكر الاجتماعي ومميزات المنهج العلمي الإسلامي وضوابطه
7. الفكر الإنساني
8. المخرج من كيد الغرب
9. لمن المستقبل
رغم ضخامة الكتاب إلا أنه من الواضح أن مؤلفه كتبه في فترة وجيزة، بل وجيزة جدا، وربما كان يسود منه مئات الصفحات يوميا، ومن كانت لديه خبره بالكتب يلمح ذلك جليا من سلاسة القلم وسيولة الأفكار وترابطها أول الكتاب وآخره، كما يشهد لذلك جدة المعلومات وكثرتها في أجزائه كافة.
ليس الكتاب موسوعة معارف، بل تطواف عليها، وإن لم يقصد ذلك، لكنه تطواف يدل على المكانة العلمية لصاحبه، ووفرة اطلاعه على علوم الشرق والغرب قديما وحديثا، كما يدل على متابعة صاحبه القوية المتصلة الحثيثة لكل قضايا العالم، وخاصة قضايا العالم الإسلامي، وبالأخص قضية فلسطين، فقد ذكر من التفاصيل ما لا يعلمه أهلها.
الحوالي متحمس جدا لفكرته إلى درجة التعصب، ينافح عنها بكل الوسائل، ويحشد الأدلة التي تدعمها، وهو ملتقط يقظ لكل فكرة أو معلومة تدعم موقفه ومشروعه، مع الإحاطة بكل جوانب الفكرة مما يعطيه القدرة على إعادة التوازن في النهاية، كما أنه بارع في إسقاط المفاهيم الإسلامية المجردة على أحداث التاريخ، قديمة وحديثِهِ، والقدرة على عقد المقارنات بين وقائع تاريخيه سابقة مع مثيلاتها لاحقه، وخاصة من أحداث القرن الأخير، كما تعجب من قدرته على الخروج من ضغط الواقع الثقيل الذي يمثله الهيلمان الأمريكي، فلا هو يعترف بسلطة الغرب ولا يقبل بها، ويعتز بالإسلام فلا يطأطئ، ولا يهوله نفوذ أمريكا وإسرائيل، رغم إدراكه لقوة هذا النفوذ، فليس هو بالجاهل.
بدأ الحوالي بتعريف الحضارة، وتحدث عن تفوق الحضارة الإسلامية، ومميزاتها، وعن تاريخ نشأة الحضارة الغربية وعيوبها، ولأجل ذلك أقام موجزا للتاريخ العقدي في الإسلام ومثله عند الغربيين، ثم انتهى بالموقف القائم في القرن الأخير هذا.
ثم يتحدث عن الفكر السياسي في الإسلام الذي يراه موحدا واضحا عقائديا أخلاقيا، في مقابل ضياع وتشتت ومذاهب متشاكسه تتنازع يجمعها جامع الضلال ونقص الهدى أو الاتزان.
بعد ذلك يكلمك عن الفكر الاجتماعي بين الإسلام والغرب ثم الفكر العلمي، ومميزات المنهج العلمي الإسلامي وضوابطه ومصادره ثم الفكر الإنساني، وفي حديثه عن هذه الأنواع من الفكر لا ينسى أن يركز على بعض من أهم قضاياه، مثل الفلسفة، والإلحاد، والتطور، ومنهج فرويد، والمرأة، والمواطنة... إلخ.
في القسم الأخير يتحدث بعنوان: المخرج من كيد الغرب
ويلخص المخرج بكلمتين: الزهد والجهاد
وأسهب في ذاك وأجاد وأبدع، وبين أثر الزهد والجهاد على رفعة الأمة في دينها واقتصادها واستقلالها وعزتها، ولا ينسى في كل أقسام الكتاب أن يعرج على كل القضايا الهامة في الوطن العربي والإسلامي، وأهمها قضية فلسطين، والثورات العربية، وبورما والصين وكوسوفا، ويقدم نصائحه ووجهة نظره بلا مواربة، وفي ثنايا ذلك يحدد أسماء بعينها معروفة في عالم السياسة والصحافة والفكر، ويقذف برأيه فيها لا يجامل، فلا يكاد يترك أحدا، فمدح وذم، وكشف وسم، ولم يخْفِ ولم يغمغم.
لا يمكن اعتبار أنفاس الحوالي متصالحة مع الحضارة الغربية أو مع أصحاب المذاهب من غير أهل السنة من الإسلام، بل يظهر العداوة لهم لا يواري، إلا أنه –والحق يقال- ألزم نفسه بضوابط الإسلام العادلة لا يحيد عنها، وكان هذا منهجه في كل كتابه، يبحث عن النص والمقصد، فإذا عرف التزم.
قطعا لن تتفق مع الحوالي في كل ما قال، وفي عود على بدء تجد أن كتابه يقع فيه التبر والتراب، وفيه من الشطح كثير، مثل أنه دافع باستماته عن الاسترقاق باعتباره من مطالب الإسلام، و الجليّ أن الإسلام كافح الرق بشتى الوسائل، ولا شك عندي أن العالم لو تواضع على تحريم الاسترقاق لكان الإسلام أول المرحبين، فكيف نرفض توجها عالميا يحاربه، ونستقل برأي يخالف ما هو من أعز أهدافنا، كما شن الحوالي هجوما على كليات الحقوق في الجامعات العربية والإسلامية، ونقد ذلك بشده، واعتبره مضادا لحكم الله، ولست أفهم لم، وهنا العجب، وهاجم علوما بحثية وتطبيقية وطبية شتى، ومثل هذا كثير.
إذا أردت أن تستدل أن الرجل عنصري، متعصب، ضيق الأفق، يزيد من مساحة الكراهية كما يعبر البعض، أو أنه يحمل نظرية المؤامرة فتطغى عليه، فلا شك أنك ستجد في ثنايا كتابه ما يؤيد هذا.
إلا أن الرجل شديد الإخلاص للإسلام، يدافع عنه بقوة، ولا شك عندي أنه نجح في ذلك في مواضع كثيرة من كتابه، وبخاصة في الأجزاء الأخيرة منه.