تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع - بفضل الله تعالى - عن:
أولاً/ طفولة صلاح الدين وبداية ظهوره.
ثانياً/ لماذا الحديث عن صلاح الدين الأيوبي.
ثالثاً/ مواقف من حياة صلاح الدين الأيوبي.
رابعاً/ أقوال بعض الأئمة والمفكرين في حق صلاح الدين.
وفي هذا الجزء سنتحدث - بمشيئة الله تعالى - عن:
خامساً/ صلاح الدين الأيوبي في عيون قادة وعلماء الغرب
قديما قالوا: "الحق ما شهد به الأعداء"، لقد قال المنصفون من قادة وعلماء الغرب في حق صلاح الدين ما لا يدع مجالاً للشك أنه قائد عبقري مُلهم، وعسكري فذ، بكل ما تحمله الكلمات من معان، ومما قيل في حق صلاح الدين:
1. يقول عنه المؤلف البريطاني "أنتوني نتنج" صاحب كتاب (العرب: انتصاراتهم وأمجاد الإسلام): "كان صلاح الدين فارساً من أعظم الفرسان وبطلاً مغوارا".
2. أما المؤرخ الإنجليزي "رونيسمان"، فيقول: "لم يكن صلاح الدين مثل ملوك الصليبيين، لم يتراجع عن كلمته مطلقاً مع أي شخص بغض النظر عن ديانته، وكان دائماً مُجاملاً كريماً رحيماً حينما يكون منتصراً، وكان قاضياً عادلاً متساهلا".
3. يقول عنه الروائي "ولتر سكوت" في روايته (الطلسم): "العدو الشهم الذي يقدم يد العون والمساعدة حتى لخصمه الذي قطع آلاف الأميال لمقاتلته... إنه فاق أعظم الفرسان الإنجليز شهامة ونبلاً ونكران ذات؛ فهو الذي ينقذ عدوه من الموت".
4. ومما قاله المؤرخ الإنجليزي "أميروتو": "لقد كان صلاح الدين يعرف أهدافه الحربية، ويُجيد التخطيط لها، وكان من رُعاة العلوم والمعارف، وكان مثالاً طيباً في الوفاء بالوعد والشهامة والكرم، وعلى النقيض من كفاءته ومن صفاته كان يتسم معاصروه من الحكام الصليبيين للولايات اللاتينية، الذين كانوا همجاً وبرابرة".
5. يقول المؤرخ البريطاني "هاملتون جب": "يُشكل عهد صلاح الدين أكثر من مجرد حادثة عابرة في تاريخ الحروب الصليبية، فهو يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة في التاريخ البشري... استطاع صلاح الدين أن يتغلب على جميع العقبات لكي يخلق وحدة معنوية برهنت أن لها من القوة ما يكفي القول للوقوف بوجه التحدي من الغرب".
من كل ما سبق من شهادات في حق صلاح الدين سواء من مُحبيه أو من شانئيه يحق لنا أن نقول إن القدس لا تعرف إلا اثنين، عمر بن الخطاب الذي فتحها صُلحاً، وصلاح الدين الذي حررها.
سادساً/ صلاح الدين رجل دولة من الطراز الأول
لم يقتصر دور صلاح الدين على الجانب الجهادي والاهتمام بالجيش فحسب بل حرص على تأسيس دولة قوية البنيان، متكاملة الأركان، ومن مظاهر ذلك:
1. أنشأ صلاح الدين الدواوين (الوزارات) وحرص على أن ترعى هذه الدواوين تدبير أمور الدولة على أساسٍ إداريٍّ علمي.
2. حرص صلاح الدين على الاهتمام بالجانب الطبي والصحي أشد الحرص؛ فقد أنشأ عدداً من المستشفيات مثل (المارستان) في القاهرة، وقام صلاح الدين بتوفير أمهر الأطباء والمشرفين لهذا الصرح الكبير، كما وفر كل الإمكانيات المطلوبة من أدوية وتجهيزات ونفقات.
3. اعتنى صلاح الدين بالعلم، وشجع العلماء في مختلف مجالات المعرفة، وعمل على ازدهار التعليم، فأنشأ الكثير من الكتاتيب والمدارس ووفر كل المتطلبات لهذه المنشآات، بل وفر لطلبة العلم سُبُل الانتقال إلى مواطن العلم في مصر والشام وبغداد ومكة من أجل الاستزادة من العلم على يد العلماء الثقات في هذه البلاد.
4. اهتم صلاح الدين بجانب التعليم اهتماماً كبيراً، قال فضيلة الشيخ "عبد الله ناصح علوان" في كتابه (صلاح الدين محرر القدس): "أمر صلاح الدين بتنظيم العمل في شتى المدارس التي أنشأها على اختلاف تخصصاتها في أمور العلم والدين، فكان القائمون بالتدريس ينقسمون إلى فريقين:
الفريق الأول/ فريق المدرسين، وهم الأساتذة المتبحرون في العلم.
الفريق الثاني/ فريق المعيدين، وهؤلاء يعيدون ما يلقيه المدرسون على الطلاب، ويشرحون لهم ما استغلق عليهم فهمه، وكان (المُعيد) لا يبخل بوقته في سبيل شرح المادة العلمية، وتيسيرها على الطلاب".
وذكر المقريزي أن صلاح الدين في سنة 566هـ، هدم سجناً أقامه العبيديون وابتنى مكانه مدرسة على مذهب الإمام الشافعي، وهي أوّل مدرسة عملت بديار مصر، وأوقف عليها.
5. اهتم صلاح الدين اهتماماً بالغاً بإصلاح جوانب العقيدة، وتعليم المسلمين عقيدتهم الصحيحة، فبنى أول مدرسة للحنفية بالقدس فور استردادها عام 583هـ، عُرِفَت باسم (المدرسة السيوفية) ووفر لها كل المتطلبات ولم يضنن عليها بشيء.
6. من مظاهر اهتمام صلاح الدين بجانب العقيدة هو دعمه للمذهب السني؛ فقد أنشأ مدرستين لتدريس فقه أهل السنة والجماعة، هما المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، كما قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سبباً في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم.
7. ومن مظاهر اهتمام صلاح الدين بجانب العقيدة والالتزام بعقيدة أهل السنة والجماعة أنه حرص على استئصال المذهب الشيعي من جذوره وقام بحرق كتب المذهب الشيعي وكل الكتب التي تنشر البدع وتزعزع العقيدة ، وتوسع في إنشاء المدارس التي تقوم بتدريس مذهب أهل السنة والجماعة وجعلها متاحة لكل طبقات الشعب، بل وأمرهم بالالتحاق بها.
يقول القاضي بهاء الدين: "وكان -صلاح الدين- كثير التعظيم لشعائر الدين، ومبغضاً للفلاسفة والمعَطِّلة، ومن يعاند الشريعة".
8. اهتم صلاح الدين بالمؤسسات الاجتماعية التي تخفف عن الناس بعض عناء الحياة، فألغى الضرائب التي كانت تفرض على الحجاج الذين يمرون بمصر، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجؤون إلى المساجد، وجعل من مسجد (أحمد بن طولون) مأوى للغرباء.
إن الجوانب المختلفة للدولة التي اهتم بها صلاح الدين الأيوبي تؤكد على أنه رجل دولة من الطراز الأول حيث اهتم صلاح الدين ببناء الإنسان جنباً إلى جنب مع بناء العمران، وكل هذه الأمور هي مفاصل الدولة وأركانها التي بها تقوى وبدونها تنهار وتزول.
اهتم صلاح الدين ببناء الإنسان جنباً إلى جنب مع بناء العمران، وكل هذه الأمور هي مفاصل الدولة وأركانها التي بها تقوى وبدونها تنهار وتزول
سابعاً/ أفضل ما قال القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله
1. يعتقد بعض السلاطين أن البطش يحفظ المُلك وأن العامة على دين ملوكهم فتزين لهم بطانتهم أعمالهم حتى ينقطع ما بين العامة وبين السلاطين فيحسبون أن السكون خضوع حتى تأتي الأيام بما غفلوا عنه حين لا ينفع الندم.
2. إذا تعسَّرت أمورك، وخالجتك الهموم والأحزان فاتق الله، فهو كفيل بتفريج همك، وتيسير أمورك.
3. إلهي.. قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي و نعم الوكيل.
4. لولا أن الموت أتاني لجعلت كل الدول الأوروبية إسلامية.
5. لا تظنوا أني فتحت البلاد بالسيوف إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل.
6. لا يوجد ما يستحق الندم، غير ما يضيع من العمر في هذا الندم.
7. الاطمئنان إلى أحد قبل الاختبار حمق.
8. قد يتحول كل شيء ضدك ويبقى الله معك، فكن مع الله يكن كل شيء معك.
9. كيف أبتسم والأقصى أسير؟
10. إن يوماً باقياً من العُمْر هو للمؤمن عُمْر، لا ينبغي أن يُستهان به.
لم يكن غريبا على "صلاح الدين الأيوبي" أن يشتهر عنه قوله "كيف أضحك والأقصى أسير" وهو قد تربى على يد الملك العادل "نور الدين محمود" الذي كان من كلامه "إني أستحي من الله تعالى أن يراني مُبتسماً، والمسلمون مُحاصرون بالفرنج".
ولم يكن غريباً أن تصدر هذه العبارات القوية الفريدة عن صلاح الدين فلقد ورث روح الجهاد من مُعلمه ومُربيه "نور الدين محمود" الذي (كان يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير).
ثامناً/ وفاة صلاح الدين الأيوبي
توفي صلاح الدين الأيوبي فجر يوم الأربعاء 4 مارس سنة 1193م، الموافق 27 صفر سنة 589 هـ، عن عمر يناهز 56 عاما.
جاء في كتاب (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) لـ "بهاء الدين بن شداد"، قال: "وكان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفُدي بالنفس".
واستطرد قائلاً: "وكان يوماً عظيماً وقد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة من أن ينظر إلى غيره وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ وكان أولاده يخرجون مستغيثين إلى الناس فتكاد النفوس تزهق لهول منظرهم. ودام الحال على هذا إلى ما بعد صلاة الظهر".
وأضاف: "وارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة فصلى عليه الناس أرسالاً وكان أول من أم بالناس القاضي محيي الدين ابن الزكي ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وكان متمرضاً بها ودفن في الصفة الغربية منها، وكان نزوله في حفرته -قدس الله روحه ونوّر ضريحه- قريباً من صلاة العصر".
وقد أشاد الأصفهاني في شهادته عن صلاح الدين، بأنه ترك كثيراً من الأولاد: سبعة عشر ولداً وبنتاً واحدة، ومع ذلك لم يشغل باله بجمع المال لهم، بدليل أنه ترك في خزائنه عند وفاته ديناراً واحداً وستة وثلاثين درهماً، أما ما دخل خزانته من أموال مملكته الواسعة التي ضمَّت مصر والشام واليمن والحجاز، فقد أنفقها جميعاً في الجهاد وأغراضه.
وأخيراً أقول:
إن الله تعالى إذا أراد أمراً، هَيّأ له أسبابه، وأزال عواقبه، وقدَّر أوقاته، وأتمّه.
لقد شاء الله تعالى دحر الصليبيين وتحرير أولى القبلتين من براثنهم ودنسهم فكانت رعايته -سبحانه وتعالى- للقائد الفذ المغوار صلاح الدين الأيوبي الذي طهَّر منهم البلاد، ووقى من شرهم العباد، وطردهم من بلاد المسلمين شر طرد، لما يحمل بداخله من نفس أبية تواقة للجهاد وفضل المجاهدين، وفكر سياسي وعسكري فريد، وهدف واضح، وتخطيط لم تشهد المعارك نظيراً له.
إن كل ما سبق جعل كثيرين من بلاد الغرب وأذنابهم في بلاد الشرق يضمرون له بالغ الحقد والكراهية، ويكفينا أن نعلم مدى الحقد الصليبي المتوارث والدفين تجاه صلاح الدين مما فعله الجنرال "غورو" بعد الاحتلال الفرنسي لدمشق، فزار ضريح صلاح الدين الأيوبي ووقف أمام قبره وركله بقدمه قائلاً: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، وما كان ليفعل ذلك لولا يقينه بأن الأحفاد قد أضاعوا مجد الأجداد وأن الوهن قد أصابهم فأحبوا الدنيا وكرهوا الموت.
وأقول:
إن أعداء الأمة الإسلامية لا يكُفُّون عن تشويه تاريخ صلاح الدين الأيوبي والتقليل من شأنه ومن قدر ما قام به من إنجازات، خشية أن يخرج من بين المسلمين جيل جديد يتخذ صلاح الدين قدوة ويعمل على استعادة أمجاده ، فهل سنعي ذلك جيداً ونحافظ على مجد أمتنا قبل أن نبكي كالنساء على مجد لم نحافظ عليه كالرجال!