إن من بين الناس أناس يتوقف التاريخ أمامهم طويلاً؛ لما أحدثوه في وجه التاريخ من طفرات وتغييرات، ولما بذلوه من جهود مُضنية وتضحيات غالية، ولما قدَّموه من عطاء وتضحيات، ولما سطروه من مجد لأمتهم عزَّ أن يتكرر وندُر أن يُحاكى.
من بين هؤلاء العظماء المغاوير الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين والدنيا/ يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُويني التكريتي (المشهور بلقب صلاح الدين الأيوبي) الذي ولد عام 1138م الموافق 532 هـ، وتوفي فجر يوم الأربعاء 4 مارس سنة 1193م، الموافق 27 صفر سنة 589 هـ، وتوفي عن عمر 56 عاماً.
أولاً/ طفولة صلاح الدين وبداية ظهوره
نشأ صلاح الدين وتربّى في بيئة أكسبته الكثير من الخصال التي لم يكتسبها غيره؛ فقد جالس الأمراء فاكتسب منهم العزة والشرف، وصاحب القادة فاكتسب منهم العادات النبيلة والمهارات الحربية الأصيلة، وتتلمذ على يد خيرة علماء عصره فاكتسب منهم العلم الغزير والخلق الرفيع والشجاعة المادية والأدبية.
قضى صلاح الدين طفولته الأولى في الموصل وبعلبك برفقة والده الذي كان أحد ضباط نور الدين محمود، فكان من الطبيعي أن يتردد على دور العلم والمعرفة هناك ليتعلم فيها مهارة القراءة والكتابة والصرف والنحو وحفظ القراَن الكريم.
ويقول "تاج الدين السبكي" صاحب كتاب (طبقات الشافعية): "كان صلاح الدين فقيهاً درس الفقه الشافعي بالإضافة للحديث والعقيدة، وروى الحديث عنه أناس مثل يونس بن محمد الفارقي والعماد الكاتب وغيرهما، ويقال إنه كان يحفظ القرآن والتنبيه في الفقه، والحماسة في الشعر".
لم يكتف صلاح الدين بكل ذلك، بل انكب على دراسة الهندسة الإقليدية "نسبة إلى إقليدس"، والرياضيات المجسطية (التي تعني بدراسة الفلك والرياضيات) وبالإضافة إلى كل ما سبق، كان صلاح الدين مُلماً بعلم الأنساب وتاريخ العرب والشعر، فقد أتقن حفظ ديوان الحماسة لأبي تمام، كما أحب الخيول العربية المطهمة (شديدة الحسن عريقة الأصل).
حين بدت من صلاح الدين أمارات الرجولة الفذة قدَّمه الملك العادل نور الدين زنكي وعوَّل عليه فأسند إليه رئاسة شرطة دمشق، وقد تقلّد صلاح الدين مهام هذا المنصب كما ينبغي، واستطاع أن يُطهِّر دمشق من اللصوص والمفسدين فاستتب الأمن وساد الاستقرار ربوع الشام إلى حد لم يألفه الناس من قبل.
وقد عبر الشاعر حسان بن نمير المعروف بـ"عرقلة الدمشقي" عن فرحته بتولي صلاح الدين رئاسة الشرطة في دمشق فأنشد يقول:
رويدكم يا لصوص الشام :: فإني لكم ناصح في المقال
أتاكم سَمِي النبي الكريم :: يوسف رب الحجا والجمال
فذاك يقطع أيدي النساء :: وهذا يقطع أيدي الرجال
ثانياً/ لماذا الحديث عن صلاح الدين الأيوبي؟
إن من ينظر إلى عمر صلاح الدين الأيوبي وينظر إلى ما حقق في حياته من أعمال وإنجازات يدرك أننا أمام شخصية فريدة، بل قلما يجود الزمان بمثلها.
ولِمَ لا، وهو الذي أسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام وبلاد الحجاز واليمن!
ولِمَ لا، وهو الذي قضى على الدولة الباطنية الفاطمية في مصر بعد أن استمرت 262 سنة من الزمان، وقضى على مذهبهم الشيعي، وفتح المدارس لدراسة المذاهب السنية!
يقول "السيوطي" في كتاب (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة): "وأخذ صلاح الدين في نصر السُّنة وإشاعة الحق وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض وكانوا بمصر كثيرين".
ولِمَ لا، وهو الذي قاد عدّة حملات ومعارك ضد الفرنجة وغيرهم من الصليبيين من أجل تحرير الأراضي المقدسة التي كان الصليبيون قد استولوا عليها، وكان له ما أراد!
ولِمَ لا، وهو الذي تمكن من هزيمة الصليبيين هزيمة نكراء في موقعة حطين وقضى على أحلامهم التوسعية في بلاد المسلمين!
ولِمَ لا، وهو الذي ضرب مثالاً طيباً للقائد المسلم بكل ما تحمل العبارة من معان؛ فقد أجبر ألد خصومه على أن يعترفوا بمكانته وقيمته، بل وأجبر المؤرخين الغربيين على أن يوثقوا ذلك في تاريخهم إلى يومنا هذا!
ولِمَ لا، وقد قيل عنه أنه أفضل قادة وحكام المسلمين بعد الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه!
ولِمَ لا، وكل الأجيال المتعاقبة من بعده - إلى يومنا هذا - تتمنى أن يمُن الله تعالى عليهم بمثل صلاح الدين!
إن كل ما سبق جدير بأن يجعلنا ننكب على دراسة السيرة الذاتية لصاحب كل هذه الإنجازات العظيمة في هذا العمر القصير وذلك من مصادرها الصحيحة المُوثقة؛ لكي نستلهم منها ما فقدناه ونعوِّض ما خسرناه.
ومن الأسباب التي تحتم علينا ذلك أيضاً:
1. أن شخصية صلاح الدين الأيوبي ليست بالشخصية التي عاصرت عهد الصحابة ولا عهد التابعين من بعدهم ولكنه تربى على هديهم واقتفى أثرهم ، وهذا ما يجعل الحديث عنه ذا أثر بالغ، يُبطل مزاعم من يقولون إن عهد الصحابة قد ولَّى وإن عصر المعجزات قد انتهى.
2. إنني لن أكون مُبالغاً إذا قلت إن الحديث عن تفاصيل حياة صلاح الدين الأيوبي بل ودراستها من المهد إلى اللحد من حق الأجيال جيلاً بعد جيل إلى أن يأذن الله تعالى بميلاد صلاح جديد يكتب الله تعالى على يديه صلاح الدين والدنيا معاً، وما ذلك على الله بعزيز.
3. ولن أكون مُبالغاً إذا قلت إن التفريط في المعرفة العميقة والدراسة الدقيقة لشخصية صلاح الدين الأيوبي يُعد خيانة للأجيال، وخيانة للتاريخ، وخيانة لهذا البطل الإسلامي المغوار.
4. إن شخصية صلاح الدين الأيوبي من الشخصيات المُلهمة للأجيال، والمحفزة للطاقات، والباعثة على الأمل، والطاردة لكل يأس أو تثبيط أو استسلام.
5. إننا إذا تجاهلنا الحديث عن صلاح الدين في وقت فيه القدس قد أُسِرت، والأمة قد ضلَّت، والقدوات قد نَدُرت، والكرامة قد أهدِرت، والتاريخ قد زُوِّر وحشيَ بأخطاء وشبهات وضلالات وأباطيل وراءها من يريدون تدجين الأمة وإذلال رجالها واستسلام شبابها وسلب مقدراتها، فعن من نتحدث إذاً!
6. إن دراسة شخصية صلاح الدين الأيوبي توقظ الليث الجفول وتعيد بعث المارد الإسلامي الذي كانت تهابه القياصرة، وترتعد من سماع اسمه الأكاسرة، وتولي الأدبار من أمامه الأباطرة.
7. دراسة شخصية صلاح الدين الأيوبي تُحيي مَوَات الأمة، وتبعث فيها روح الأمل والتفاؤل، وتلم شعَث القلوب، وتوحِّد الغايات في غاية واحدة والأهداف في هدف واحد؛ لأنه لا سبيل لنهضة الأمة إلا بما نهض بها سلفها الصالح وقادتها المغاوير الذين يغارون على الدين ويزودون عن حياضه وبيضته.
9. ودراسة شخصية صلاح الدين الأيوبي تزيل الغبار من طريق الحق وأهله وتجعله واضحاً جلياً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً، وتزيل الغشاوة من أعين المتنكبين الطريق، والران من على قلوب من شككوا في صحته.
10. دراسة شخصية صلاح الدين الأيوبي تزيد من عطاء الأغنياء، وتضحية الأقوياء، وجهاد الأصفياء، وبذل الدعاة والعلماء، كما تعمل على نبذ الخلاف والشحناء والبغضاء، وحسن اللجوء إلى رب الأرض والسماء.
إن بطلاً بمثل كل هذه الصفات لا بد وأن يكون له أعداء وحاقدون لذلك فإن صلاح الدين قد تعرض لمحاولات الاغتيال أربع مرات، خاصة على يد الفاطميين الذي قضى على خلافاتهم ومذهبهم الشيعي للحد الذي جعلهم يتنكرون في زي جنود صلاح الدين ويندسون بينهم يقاتلون معهم بُغية الوصول إلى صلاح الدين وقتله، ولولا رعاية الله ثم شدة حرص صلاح الدين لحققوا غايتهم.
ثالثاً/ مواقف من حياة صلاح الدين الأيوبي
إن المواقف في حياة رجل مثل صلاح الدين الأيوبي كثيرة ومن الصعب حصرها فالمواقف في حياة الرجل أكثر من أيام حياته وهذا بشهادة وتوثيق شانئيه قبل مادحيه، لذا سنكتفي بذكر اليسير منها.
1. موقف في النبل والتسامح
جاء في كتاب "العرب عنصر السيادة في القرون الوسطى" لمؤلفه المؤرخ الإنجليزي (جون دوانبورت) أن ريكاردوس (ريتشارد) قلب الأسد ملك الإنجليز بعث برسالة إلى صلاح الدين مفادها: "إلى صلاح الدين الأيوبي ملك العرب، أيها المولى: حامل خطابي هذا، بطل صنديد، لاقى أبطالكم في ميادين الوغى، وأبلى في القتال البلاء الحسن، وقد وقعت أخته أسيرة، فساقها رجالكم إلى قصركم وغيروا اسمها، فقد كان اسمها ماري فأطلق عليها اسم ثريا، وإن لملك الإنكليز رجاء يتقدم به إلى ملك العرب، وهو إما أن تعيدوا إلى الأخ أخته، وإما أن تحتفظوا به أسيراً معها، لا تفرقوا بينهما، ولا تحكموا على عصفور أن يعيش بعيداً عن أليفه، وفيما أنا بانتظار قراركم بهذا الشأن، أذكركم بقول الخليفة عمر بن الخطاب -وقد سمعته من صديقي الأمير حارث اللبناني- وهو: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، فكان جواب السلطان الناصر صلاح الدين: من سلطان المسلمين صلاح الدين إلى ريكاردوس ملك الإنجليز أيها المولى: صافحت البطل الباسل الذي أوفدتموه رسولاً إليَّ، فليحمل إليكم المصافحة ممن عرف قدركم في ميادين القتال، وإني لأحب أن تعلموا، بأنني لن أحتفظ بالأخ أسيراً مع أخته؛ لأننا لا نبقى في بيوتنا إلا أسلاب المعارك، لقد أعدنا للأخ أخته، وإذا عمل صلاح الدين بقول عمر بن الخطاب، فلكي يعمل ريكاردوس بقول عيسى: "فرد أيها المولى الأرض التي اغتصبتها إلى أصحابها، عملاً بوصية السيد المسيح عليه السلام".
2. موقف في الغيرة على الدين والانتقام ممن تطاول على نبي الإسلام ﷺ
جاء في "وفيات الأعيان" لـ "شمس الدين بن خلكان" (بتصرف): حدث أن (رينالد من شاتيون) الشهير بـ (أرناط) قد غدر ببعض المسلمين في مصر وقتلهم شر قتلة وعندما ذكَّروه بالصلح الذي بينه وبين المسلمين لم يبال، وقال ما يُفهم منه الاستخفاف بالنبي ﷺ، عندما بلغ صلاح الدين ما فعله أرناط استشاط غضباً وحملته حميته لدينه على أن يهدر دم أرناط، بعد الانتهاء من معركة حطين كان أرناط من بين الأسرى فأمر صلاح الدين بإحضاره وأوقفه بين يديه وقال له: "ها أنا أنتصر لمحمد منك"، ثم عرض عليه الإسلام فرفض فسل صلاح الدين سيفه وضربه به فقتله وأمر بإخراج جثته ورميها على باب الخيمة، لما رآه الملك على تلك الحال لم يشك في أنه يلحقه به فاستحضره وطيب قلبه وقال له لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك وأما هذا فإنه تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم".
رابعاً/ أقوال بعض الأئمة والمفكرين في حق صلاح الدين
1. جاء في كتاب "النوادر السلطانية" لبهاء الدين بن شداد، قال: "وكان -رحمه الله تعالى- خاشع القلب رقيقه غزير الدمعة إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته، وكان -رحمه الله- شديد الرغبة في سماع الحديث ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصين به وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له، وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه، تردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية - حرسها الله تعالى - وروى عنه أحاديث كثيرة".
2. يقول "الأنبا ساويرس بن المقفع" في كتابه (تاريخ البطاركة): "إن الملك صلاح الدين عامل رعيته في بلاد مصر بخير يعجز الواصف عن وصفه وأرسى العدل وأحسن إلى المصريين وأزال مظالم كثيرة على الناس وأمر بإبطال الملاهي في بلاد مصر وأبطل كل مُنكر شرير وأقام حدود شريعة الإسلام، وكان يجلس للحكم بين الناس فينصف المظلوم من الظالم ويكون في مجلسه مجموعه من الفقهاء ومشاهير الدولة للنظر في القضايا بين الناس والعمل بما توجبه أحكام الشريعة والحق والعدل".
وللحديث بقية في الجزء الثاني من هذا الموضوع إن شاء الله تعالى