صباح السبت؛ وصلني ما كتبه نجل الأستاذ الدكتور محمد عمارة نعيا لوالده، فبدأت نشاطي اليومي على "تويتر" بتغريدة قلت فيها: "في زمن حسن شاكوش وحمو بيكا وأحمد موسى (بوسع كل قارئ أن يضيف أسماء كثيرة هنا!!)؛ يُتوفى المفكر الإسلامي الرائع د. محمد عمارة، ولا نسمع بذلك إلا في اليوم التالي.
سلام عليك يا زينة الرجال وخيرة العلماء. ستستعيد مصر التي أحببت بهاءها من جديد، وسينتهي زمن التهريج الذي أناخ بكلكله عليها. لك رحمة الله ورضوانه؛ ولنا الحزن والقهر".
إنه الحزن والقهر، ذلك أن "مغصا" عابرا قد يصيب أحد رموز التهريج، أو أدعياء الفن؛ لا يلبث أن يصبح خبرا تتداوله الوكالات والمواقع والفضائيات، بل قد يحدث ذلك بشأن شائعة مرض لا أكثر.
تلك هي طقوس زمن التهريج الذي يحكم مصر هذه الأيام، والذي لا يسيء لشعبها، بقدر ما يدين مرحلة عنوانها الخوف والذعر، بجانب الإحباط، بعد ثورة عظيمة انتهت إلى مرحلة سياسية لم تعرفها "المحروسة" في تاريخها من قبل؛ ليس لجهة سياسة الرعب وحسب، بل أيضا لجهة الحرب على الكبار، ولجهة التفريط بقضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
أزعم أنني على تماس مباشر مع الحالة الفكرية والسياسية الإسلامية بكل أطيافها منذ 4 عقود كاملة، وأتابع منتجاتها الفكرية، ونشاطها السياسي كذلك.
وفي حين تابعت والتقيت خلالها بعشرات من رموز الفكر والسياسة ممن لا يُنكر عطاؤهم، فإن الشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد عمارة كانا بمثابة أيقونتين بالنسبة لي، لا أستعيد المشهد الإسلامي إلا ويصعدا معا إلى زاوية النظر دون تردد أو كثير تفكير، ومنذ سنوات التحق بهما الشيخ سلمان العودة؛ فرّج الله كربه.
لم تكن لي لقاءات كثيرة مع الراحل الكبير، لكن الروح لم تتردد في محبته، وكان رحمه الله يأسرني بمشاعره الجميلة، وذات زيارة إلى القاهرة عرض عليَّ أن يصطحبني في جولة سياحية في المدينة، فشكرت واعتذرت وكلي شعور بالخجل؛ إذ أنى لرجل مثله أن يفعل ذلك لمثلي.
نعم، أنت لا تتردد كثيرا في محبته، سواء حين تقرأ له أو تشاهده متحدثا أو محاورا، فهو من القلة الذين جمعوا الفكر والفقه والتاريخ والفلسفة مع الواقع، وأضافوا إلى ذلك حرقة عجيبة على دين الله وأمته وقضايا المسلمين؛ تراها تتدفق من بين سطوره ومن خلال أحاديثه.
لم يترك بحرا ينافح فيه عن دين الله إلا وخاض فيه بروحية المثقف والفقيه والمفكر والفارس الواثق من نفسه بعد مكوث طويل طويل في محراب العلم. وستبقى مناظراته مع علمانيين ويساريين، وأدعياء تجديد، بجانب ردوده على اتهامات الغربيين للمسلمين؛ بمثابة مدرسة لمن يريد العلم والتعلم.
وقد أبدع العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حين رثاه بالقول: "حمل د. عمارة عقلية الفيلسوف، وقلب الصوفي، وانضباط الفقيه، وحماس الداعية، ورقَّة الأديب، وعزيمة المقاتل. ولم يكن يحيا في برج عاجيٍّ أو صومعة منعزلة، إنما عاش في قلب المعركة؛ حارسا يقظا مرابطا على ثغور الفكر الإسلامي".
أنا مثل أكثر الناس؛ يأسرني الصدق قبل العلم، والأخلاق قبل الفقه، وفي الدكتور عمارة، كان الصدق جزءا من حياته، والحرقة على دينه وحرماته بوصلة لنشاطه، والأخلاق الراقية عنوانا لسلوكه، لكنه أضاف إلى ذلك كله تلك الثقافة الموسوعية العجيبة التي أزعم أنني لم أعثر على مثلها عند غيره أبدا، ولو أحصيت ما قرأ وكتب، لوجدته حالة نادرة جدا في العموم، وليس بين المشتغلين بالفكر والهمّ الإسلامي فقط.
كان للأمة جمعاء، ولذلك رآه الإخوان المسلمون منهم، رغم أنه لم يكن "إخوانيا"؛ تماما كما رأته قوىً إسلامية كثيرة داخل مصر وخارجها؛ طبعا باستثناء صغار لم يروا سوى أنفسهم وشيوخهم.
ليست هذه السطور عن مساهماته الفكرية (مئات الكتب والأبحاث، فضلا عن المقالات القصيرة)، لأننا سنغمطه حقه، ونغمطها حقها إذا شرعنا نتحدث عنها في سطور قليلة ومحدودة كهذه، لكنني أزعم أن المكتبة الرائعة التي تركها تستحق أن تُدرّس هكذا وحدها كنموذج للموسوعية والشمولية، وكنموذج للفهم العميق لدين الله، ولدوره في الحياة.
لكنها وحدها لا تكفي، إذ لن تكتمل بغير الاستماع إلى محاضرات ومناظراته التي أبدع فيها أيما إبداع، بجانب المقالات المتفرقة أيضا.
في السنوات الأخيرة غُيّب الرجل، وبالطبع تبعا لواقع ما بعد الانقلاب وموقفه منه، بجانب الحرب على التديّن الذي يوفّر حاضنة لما يسمى "الإسلام السياسي"، بحسب أعداء الربيع العربي، وهذا يعكس واقع البؤس الذي تعيشه مصر، وعكسناه في التغريدة التي بدأنا فيها المقال.
ستمضي أجيال وراء أجيال، وسيبقى الدكتور محمد عمارة، رمزا من رموز الفكر الإسلامي الذين يعود الناس إلى تراثهم المكتوب والمسموع، وسيذهب المهرّجون، ومن يديرونهم إلى مزابل التاريخ غير مأسوف عليهم.