ذكرنا في الجزء السابق من المقال أن المرجعية السائدة بين المسلمين اليوم ليست هي الإسلام حقّاً رغم انتسابنا إليه، وإنما هي عجين هجين من ثقافات سطحيّة وتصوّرات مُجتزأة وأفهام خاطئة، نستقيها بالأساس من موردين متضاربين في غالب مادتهما مع أصول الدين الذي هو رأس مرجعية المسلم وأساسها، وسبق بيان المورد الأول وهو الأعراف المجتمعية، وفي هذا الجزء نسلط الضوء على المورد الثاني:
تصوّرات ومفاهيم مستوردة استيراداً أحمقاً من مختلف الثقافات الأجنبية
إن وصف الثقافــــات المغايرة لنا بـ "الأجنبية"، فيه دلالة تقريرية لا نلتفت لها حين نتعامل معها، ألا وهي أنها "أجنبية"! والأجنبيّ هو الغريب البعيد منك في القرابة، أو الدخيل على قوم وليس منهم ، ومع ذلك، نُقبل على مختلف علوم "الآخر" ونتاجهم، إقبال من يعتقد فيها الصلاح المطلق والإصلاح الأكيد "للذات"! مع أن منطلقاتهم الفكرية والوجدانية وتوجهاتهم الحياتية ومقاصدهم الكلية، كلها "أجنبية" الجوهر، أي بالضرورة مغايرة لنا، بل في جُلِّها معاكسة لنا.
البعض يقبل على مختلف علوم "الآخر" ونتاجهم، إقبال من يعتقد فيها الصلاح المطلق والإصلاح الأكيد "للذات"
ولا يعني ذلك عدم الإفادة منهم مطلقاً، بل يعني عدم الحُمق في الاستيراد منهم والأخذ عنهم ! والحمق هو قِلة العقل، والقصد بالاستيراد الأحمق هو التشرّب الأعمى لما يصلنا منهم أو ما نأخذه عنهم، بمنتهى الانبهار والإجلال، والترويج له بوفاء وإخلاص منقطع النّظير حتى عند أهله! هذا النوع من الانبهار الأحمق أحد أكبر الآفات الفكرية؛ لأنه يطمس عَقلَ المنبهر عن عَقلِ ما يَرِدُ عليه، بمعنى فهمه على وجهه، وتقييمه بحقه، وغربلته بقَدره.
ومن عجب أننا لا نكاد نواجه المورد الأول والثالث من موارد المرجعية بعُشر ما نواجه به مورد الديانة (الضئيل أصلاً)، من جِدال لا قَرار له، وعقليّة معاندة للفهم، ونفسيّة عَصيِّة على التسليم، ولذلك ذُكِر مورد الديانة في الوسط بين مورد العُرف ومورد العَجَم؛ لا للدلالة على "وسطيّته" بينهما، بل لأنه فريسة تُؤكَل بين نابَيْنِ!
تلك إذن هي الموارد الثلاثة المتضاربة، التي نستمد منها جميعاً وفي آنٍ معاً عجيناً نسمّيه المرجعية الإسلامية! ومن ثم يترتب على هذا العجين الهجين، ما نعيشه اليوم من كساد نفسي وهبوط روحي، يكاد يماثل ما عند غير المسلمين أو يتفوّق عليهم! وهذه حالة يمكن وصفها بـ "كسوف البال المسلم"، وكسوف البال هو ضيق النّفس وتَكَدُّر الخاطر، وعكسه صلاح البال، الذي هو انشراح الصدر وهدوء النفس.
فلماذا يتسبب ذلك العجين في ظاهرة كسوف البال المسلم؟
1. لأنه يشوّه تصوراته للوجود من حوله، فلا يرى الأمور على حقيقتها كما أريد بها ومنها، إذ لتبلغ حقيقة أمر ما، يجب أن يوافق فهمك له حقيقة واقعه هو، لا ما يَتوهَّمُه ظنّك أنت ، كما لو أنك نظرتَ لنملة من خلال عدسة مُكبِّرة فرأيتها أكبر من حجمها، سيكون تصورك لها خاطئاً، لا يوافق حقيقتها هي، بل ما تظنّه أنت حقيقتها.
نجد أننا نكبر وتكبر همومنا وتتسع تحدّياتنا وتتعمّق تساؤلاتنا وتتشعّب إشكالاتنا، وما يزال تصورنا للوجود وسننه وفهمنا للديانة وتفسيراتها في النفس والآفاق، متحجّراً عند المُدخلات الأوّلية للنشأة الأولى! فكأننا نكبُر بَدنيًّا وسياقيّاً فحسب، ونظل في طفولة فكريّة ووجدانيّة وسلوكيّة!
2. ويؤدي لجمود فهمه للديانة والحياة معاً، وطبيعة التفاعل بينهما، فمجموع التصورات المجتزأة والأفهام السطحية التي خزّنّاها أو التقطناها عَرَضاً عبر سنوات النشأة الأولى، ثم من خلال خوض الحياة اتفاقاً، لا يكفي لتشكيل مرجعية راسخة ناهيك أن تكون "حَيّة"، أي صالحة لأحياء يخوضون حياة، فنجد أننا نكبر وتكبر همومنا وتتسع تحدّياتنا وتتعمّق تساؤلاتنا وتتشعّب إشكالاتنا، وما يزال تصورنا للوجود وسننه وفهمنا للديانة وتفسيراتها في النفس والآفاق، متحجّراً عند المُدخلات الأوّلية للنشأة الأولى! فكأننا نكبُر بَدنيًّا وسياقيّاً فحسب، ونظل في طفولة فكريّة ووجدانيّة وسلوكيّة! ثم نلوم الشرع الذي يَضيِق عن استيعاب تحديات العصر، ونحن حقيقة الضائقون عن استيعاب الشرع والعصر معاً.
وينشأ عمّا سبق سوء التقدير لأقدار الأشياء والأشخاص، فوق أو دون منازلهم التي تنبغي لهم وفوضى التعامل مع نفوسنا ومع من وما حولنا؛ لأننا ننازع طبائع الأشياء وسنن الوجود وماهِيّة الخِلقة، فنقع في شَدّ وجذب مُنهِك خلال معركة ضارية، للتعايش المستحيل مع نفوسنا وواقعنا.