من الأمراض أو الحالات الصحيّة ما توصف طِبّيًا بأنها "مميتة"، أي مُفضية إلى الموت، والأدوية أو العلاج المتاح لها –إذا كان متاحًا– ليس ذا فاعلية تستحق النفقة والجهد المطلوبين لتوفيره، وربما كان ذا أعراض جانبية أنكى وأكثر إيلامًا من المرض نفسه. وأشهر أمثلتها بعض الأورام السرطانية الخبيثة في مناطق معينة. يحتار كثيرون في التعامل مع تلك الأحوال حين يصل صاحبها لمفترق الطرق المعروف: بين محاولات التشبث بالحياة بالعقاقير ومختلف العلاجات، أو تفويض الأمر لله وترك المريض يلاقي حتفه!
جزء من تلك الحَيرة سببه التصور السوداوي الكافر للموت الذي أُشربناه ضمن ما أشربنا في ثقافتنا الهجينة كما سبق بيانه. وفيما يلي نعرض معالمًا يرجى أن تعين على جلاء الجزء الثاني الحيرة عند ذلك المفترق:
- بداية: من قال إن ترك العلاج المادي يعني الحتف الأكيد؟ لا يمكن الجزم بترتب الموت على شيء أو وقوعه لأحد على أية حال، بل لا يوجد مرض لا يمكن الجزم بأنه لا ينتهي لوفاة، بل إن الوفاة والحياة لا تُضمن للصحيح قبل المريض.
- ثانيًا: من قال إن تفويض الأمر لله مقتصر على من يسلّم لحاله ويترك طلب العلاج؟ الأمر كله لله على أية حال وفي كل حال. فسواء طلبت أسباب العلاج المادي أم لم تطلبها أمرك كله مردّه لله. أي أنه من جهة الرب تبارك وتعالى لن تَنفُذَ إلا مشيئته؛ أمّا من جهتك أنت بوصفك عبدًا فعليك الأخذ بالأسباب الأصلح عندك تعبّدًا وإعذارا لله تعالى، لا استحقاقًا بها للنتيجة. فكم ممن يخرج لطلب الرزق فلا يأتيه من حيث طلب الكسب، لكن الله تعالى متكفل برزقه من حيث هو يشاء.
- ثالثًا: من قال إن العلاج مقتصر على الأسباب المادية؟ ثمّة آلاف أسباب العلاج الأخرى الطبيعية والبديلة والنبوية. ويفترق ما ينتمي لتصنيف "الطبّ النبويّ" خاصة عن مختلف أنواع العلاجات الأخرى بالشهادة اللهية والنبوية لمنافعه وآثاره؛ يُصدِّق بها من يشاء ويكذّب من يشاء. ومن الثابت عبر التاريخ والتجارب أن الأدوية المادية ليست وحدها سبيل العلاج، بل في كثير من الأحيان تكون هي سبب اشتداد المرض أو تعجيل الوفاة. وكذلك قد تصيب أو تخطئ كغيرها بحسب ما يجعل الله فيها من إصابة لشخص وعدم إصابة لآخر.
من الثابت عبر التاريخ والتجارب أن الأدوية المادية ليست وحدها سبيل العلاج، بل في كثير من الأحيان تكون هي سبب اشتداد المرض أو تعجيل الوفاة
- رابعًا: هل الأصلح لمريض عاش ما أذِن الله له أن يعيش في دار الدنيا، وجاءته أَمارة تقرّبه من الدار الآخرة، أن يشغل ما بقي من عمره وصحته في الالتفات للدار التي قُرِّبَت إليه أم في الاشتغال بالتي بُعِّدَت عنه؟ ومعلوم ما يستهلكه العلاج الطبي لهذا النوع من الأمراض من مزيد إنهاك وآلام ووقت ومال، بحيث ما يتبقى في المرء بعدها من طاقة لا يكاد يسعفه في أمر دنيا ولا أمر آخرة!
- خامسًا: إنّ الأمراض "المميتة" أولى بالالتفات للآخرة عن الدنيا، خاصة لمن بلغوا من الكِبَر عِتيّا. لكن عندما يكون المريض من ذوي الرّحم أو القرابة، فإن محنة المسؤولين عنه تنبع بالأساس من حرج من الوجاهة الجماعية كما سنختم بالكلام عنها. والسؤال المطروح: هل "الأصلح" حقًا لأهل المريض أن ينفقوا من جيوبهم أم أنه "الأسهل" في مقابل الإنفاق من نفوسهم؟ أن يلتف الأبناء حول المريض من الوالدين –مثلًا- ويجتمعوا على أو يتبادلوا خدمته ومؤانسته ورقيته وتذكيره، فيتمتع بما بقي له معهم ويتمتعوا بما بقي منه معهم، أهذا أصلح أم إفراده في جناح منعزل موصل بالأنابيب الصمّاء وتبادل زيارات المرور العابرة عليه بضع ساعات في اليوم؟
من المعايير الحاكمة في قراراتنا وحركتنا ليسا الواجب والمسؤولية وشعور الذنب للتقصير كما ندّعي، وإنما فزعنا أن يُقال عنّا أو يُنظَر إلينا على أننا لم نقم بما علينا مما يظهر للناس
- سادسًا: من الحق الاعتراف بأن من المعايير الحاكمة في قراراتنا وحركتنا ليسا الواجب والمسؤولية وشعور الذنب للتقصير كما ندّعي، وإنما فزعنا أن يُقال عنّا أو يُنظَر إلينا على أننا لم نقم بما علينا مما يظهر للناس، في حين لا نكاد نستاء من علمنا بحقيقة أننا لم نقُم بما كان علينا مما لا يراه إلا الله. العبرة في الأصلح دائمًا بحال كل شخص في نفسه ومقاصده مما يفعل أو يترك، وكلٌّ على نفسه بصيرة وبحاله أدرى وبمقاصده أعلم.. و{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25].
ونختم بالتنويه على أن نهج التعامل هذا يصدُق على كافّة أصحاب ذلك النوع من الأمراض ولو كانوا صغار السنّ. ومن الفلسفات الأجنبية المعروفة في التعامل مع تلك الحالات استغلال ما تبقى من أوقات الحياة في تنفيذ قوائم الرغبات والأمنيات. وهذا المبدأ ليس مرفوضًا عندنا تمامًا بحدّ ذاته، لكن يجب الانتباه لفارق المنطلق والمنتهى في تعريف تلك الرغبات والأمنيات، ونوعية ما سيودّ صاحبه أن "يَعمُر" أو "يُبَدّد" آخِر أنفاسه به. فالآخِر عندهم نهاية الأمد، والآخِر عندنا بداية الأبد .