أراد الله أن تكون الحياة الدنيا مطية لنا ووسيلة عبورنا للحياة الآخرة ومزرعة نحصد في آخرتنا ما قد زرعناه فيها، لذا لا عجب وأن تجد الوقت مدار اهتمام النصوص الشرعية وتوجيه المسلم لكيفية استغلال عمره ووقته فيما يعود عليه بالفوز والفلاح، وبما أن الحياة الدنيا جسر العبور للحياة الآخرة فلا بد للمرء من عبور هذا الجسر ومخالطة أحواله دون أن ينشغل به انشغالا ينسيه مآله أو أن يتجاوزه بإهمال غير مدرك لأهميته ليستثمر فيه استثمار الغريب في غربته لحين عودته لربوعه وأهله وخلانه.
وفي الآونة الأخيرة -وقد عمّ البلاء بلادنا وأوطاننا وبتقلب الأحوال وشيوع حالة من الطوارئ لعموم البلاد وأغلبيتها واختلاف نفسيات البشر في تقبل البلاء وطرق تعاملهم في الظروف الراهنة- تجد نسبة من الناس تعثرت خطواتهم وتقلقلت نفسياتهم وتثاقلوا إلى الأرض بمزيد من العجز والكسل فتجدهم كما الأموات في جسد الأحياء، أقعدهم العجز عن الإتيان بضروريات الحياة؛ فبدلاً من أن تكون الظروف الراهنة المنبه الذي يوقظهم من غفلتهم والوقود الذي يشعل فتيل العزم فيهم فإذ سكرتهم في ازدياد وغفلتهم أشد من ذي قبل وكأن الواحد منهم ينتظر الأقدار لتغير مجريات الأمور وتبث الحياة في حياته الراكدة تارة ولسان حاله يتساءل تارة أخرى لم السعي والعمل والنهاية وشيكة أو ماذا عساه عملي سيقدم أو يؤخر.
وفي خضم كل هذا وإذ بحديث نبوي شريف يستحضرني ليعيد الأنفاس لمن تسربلوا بلباس الموت، ويبذر الأمل في حقول تنامت فيها أشواك العجز والكسل واليأس فيكون بذلك منارة النور التي تنير للسائرين دروبهم وتوضح الطريق للعابرين، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل" (رواه أحمد).
حديث ينطوي على سر عظيم من أسرار فقه الحياة وتوجيه نبوي يبعث في النفس الآمال ويبث الإيجابية في أحلك الظروف وأعتاها، بل هو حروف من نور ترشدنا لأن نحيا الحياة وفق فقه ينضبط بمراد الله ومن يتدبر حديث المصطفى يجد فيه دليلاً إرشادياً لحياة كل مؤمن منا ومن هذه الإرشادات:
أولاً/ أهمية العمل والأخذ بالأسباب دون الانشغال بالنتائج، فالمسلم مطالب بالعمل سواء حصد ثمار عمله في الدنيا أم لم يحصد فلا يضيع مثقال ذرة عند الله ، والعبد يُسأل عمّا قدم ولا يسأل عن نتائج ما قدم، وتأمل الهدي النبوي في الحث على العمل والترغيب فيه: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" (صحيح البخاري).
ثانياً/ طريق الآخرة يكون من خلال هذه الحياة الدنيا لا انفصام بينهما ولا يفترق العمل عن العبادة وعملك للآخرة لا يعني انقطاعك عن الدنيا؛ فقد قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
ثالثاً/ الترغيب بفعل الخير ولو كان ثمار هذا الخير سيجنيه غيرك والخير ميدانه أكثر سعة من أن نضيقه في شعيرة من الشعائر التعبدية، وهذه لها مواقيتها غير أن أعمال الخير لا تحد بزمان ولا مكان، وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يغرس فيك هذه القيم فيقول صلى الله عليه وسلم: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة" (صحيح البخاري).
رابعاً/ اغتنام كل مراحل الحياة بما فيها اللحظة الأخيرة من الحياة في العمل؛ لأن هذه الحياة دار عمل وزرع والآخرة دار جزاء وحصاد.
خامساً/ الإيجابية وتجاوز الأنانية والفردية لكي تتخلص مجتمعاتنا من سلبياتها، فيركز الإنسان طاقته على السعي ويبذر الخير ليعم الأثر ويتجاوز دائرة الفرد إلى الجموع، وانظر لقصة الغلام في أصحاب الأخدود فقد تمثلت إيجابيته في بذل روحه؛ لتكون سبباً في إسلام أمّة، فقد قال الغلام للملك بعد فشله في عدة محاولات لقتله: "فقال لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حتى تَفْعَلَ ما آمُرُكَ بِهِ قال وما هو قال تَجْمَعُ الناس في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي على جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْماً من كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إذا فَعَلْتَ ذلك قَتَلْتَنِي فَجَمَعَ الناس في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ على جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً من كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قال بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فقال الناس آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ" (صحيح مسلم).
وعلى هذا مهما تغيرت الظروف المحيطة بالعبد واشتدت الابتلاءات من حوله ما دام فيه نفس فهو مكلف بالعمل وتقديم ما في وسعه في هذه الحياة الدنيا ويرجو الجزاء في دار الجزاء لأنه ابتداء يعلم أن هذه الحياة دار عمل، والذين قعدت بهم هممهم عن الواجبات باشتداد الأزمات إنما هذا مسلك من مسالك الشيطان ليثبط ويحبط المؤمن عن رسالته ويشغله عن غايته ويحزنه ويعجزه.