وقفات تربوية في ظل المرض

الرئيسية » بصائر تربوية » وقفات تربوية في ظل المرض
muslim-coronavirus

خلق الله الحياة الدنيا كما خلق الحياة الآخرة، وشاء بإرادته سبحانه أن تكون الأولى مزرعة للآخرة، ودار عبور لا دار قرار، وهو -جل شأنه- الذي خلق الجنة وحفها بالمكاره وخلق النار وحفها بالشهوات وما يترتب على ذلك أنّ دار العبور فيها النصب والتعب والكدر؛ فالسفر في الحياة الدنيا مهما تطورت وسائله يظل فيه من المكاره والعثرات مالا ينكره بشر، فكيف إذا كان هذا السفر لحياة الخلود ودار الجزاء التي فيها إما جنة أو نار، ومن المكاره التي حفت بها دروبنا في سعينا وسفرنا للحياة الأخرى الأمراض التي تفتك بأجسادنا أو بأجساد أحبة لنا، فتكون بذلك صورة من صور الابتلاء المتعددة والذي هو سنة الله في خلقه.

وهل يتميز المؤمن عن غيره ويتحمص إيمانه إلا بمحن وابتلاءات تنقيه وتستخلصه لله الواحد فيعلم الصادق من الكاذب ، ويتبين ادعاء كل إنسان في دعواه إن كان مؤمناً أو غير ذلك، أو لم يقل جل شأنه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، وقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، فعلى المؤمن أن يتيقن أن كل شيء في هذا الكون من خير وشر سراء وضراء إنما بقدر من الله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وكلا الأمرين خير؛ لأن الله لا يقدر أمراً إلا وكان فيه خير العبد، فتكفير السيئات عن العبد في دنياه خير له من أن يأتي يوم القيامة مثقلاً بجبال من الذنوب تهوي به في نار السعير، غير أن هذه المصائب التي نُبتلى بها على اختلاف أشكالها وأنواعها تصقل قلب المؤمن وروحه مما يجعل المؤمن ينظر متفحصاً حال قلبه بأي مقام هو عند استقباله هذه المصائب ، إذ أن الإنسان له أربع مقامات في استقبال المصائب وهي:

المقام الأول/ التسخُّط والاعتراض على قدر الله -سواء كان بالقلب أو اللسان والجوارح- وهذا حرام ينافي التسليم والعبودية؛ فقد قال جل شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

المقام الثاني/ الصبر: عند نزول المرض أو وقوع المصيبة.

المقام الثالث/ مقام الرضا: بأن يرضى العبد بما قدر الله عليه.

المقام الرابع/ الشكر: وهو أرفع المقامات.

فينظر العبد حال قلبه في أي المقامات إذا أصابته مصيبة كان، فإن وجد خيراً شكر وإلا فعليه بتجديد التوبة والإنابة إلى الله والتيقن أنه ما كان من حكم الله وقضائه إلا الخير كل الخير له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" (صحيح مسلم) وعلى هذا فإن للأمراض خاصة وسائر المصائب قيماً تربوية لا بد من الوقوف عليها:

أولاً/ تكفير ذنوب العبد: قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال عليه السلام: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" (صحيح البخاري).

ثانياً/ رفع الدرجات: مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وقول رسوله الكريم: "ما من مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فما فَوْقَهَا إلا كُتِبَتْ له بها دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عنه بها خَطِيئَةٌ" (صحيح مسلم).

ثالثاً/ استمرار الأجر والثواب، "ما أحد من المسلمين يبتلي ببلاء في جسده إلا أمر الله -عز وجل- الحفظة الذين يحفظونه اكتبوا لعبدي مثل ما كان يعمل وهو صحيح ما دام محبوساً في وثاقي" (مسند أحمد بن حنبل).

رابعاً/ دخول الجنة؛ فقد جعل الله من الأمراض ما يكون سبباً في دخول الجنة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" (صحيح البخاري).

خامساً/ التزام المرء بالتوجيهات النبوية في التعامل مع الأمراض يعود بالخير على نفسه ومجتمعه وله الأجر على ذلك، وإذا خالفه فهو معتد آثم وهو ما يعرف الآن بالحجر الصحي بدلالة قول النبي عليه السلام: "لا يورد ممرض على مصح" (مسند أحمد بن حنبل).

سادساً/ الاستشعار بنعم الله وخاصة أن الإنسان عندما يعتاد النعمة ويألفها يفقد الشعور في قيمتها، فتتربى نفسه على تعظيم هذه النِعَم مهما صغرت، ومن يعظم نعم الله لا يقابلها إلا بالشكر والعرفان وتقديرها دون إهمال أو إجحاف.
سابعاً/ أن كل ما في الكون -بما فيها الصحة- هي عارية لله في أيدينا، متى شاء استرجعها وإن شاء أدام استخلافنا فيها.

ثامناً/ قرب الله -عز وجل- من المريض وإحاطته بعنايته ورحمته، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا ابن آدَمَ مَرِضْتُ فلم تَعُدْنِي قال يا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قال أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَاناً مَرِضَ فلم تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ" (رواه مسلم).

تاسعاً/ التكاتف ومؤازرة بعضنا البعض في هذه المصائب وتجنب الأُثرة وعدم التكالب على الدنيا، فما زاد الحرص من عمر أحد وما نقص من أعمار الذين يؤثرون على أنفسهم يوماً واحداً، ولنا في صحابة رسول الله أسوة حسنة فقد ورد فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].

وأخيراً، على المسلم أن يسأل الله العفو والعافية فلا يتمنى المرض أو الوقوع في الابتلاء؛ لأنه قد يُبتلى ولا يصبر  وهذا نهج نبينا المصطفى: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي" (سنن أبي داوود).

والمسلم في كل حالاته إنما هو في ابتلاء في هذه الحياة؛ فالصحة ابتلاء وعلينا الشكر وأداء حق الله فيها كما المرض ابتلاء علينا الصبر وأداء حق الله فيه، والمسلم يتيقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولا رادّ لقضاء الله، وصدق رسول الله إذ يقول: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" (سنن الترمذي).

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …