منذ اللحظة الأولى لانطلاق فيروس كورونا من مدينة ووهان الصينية وحتى مرحلة تحوّله إلى وباء عالمي، رافق الحديث عنه مبالغات غير محدودة سواءً في ما يتعلق بتوصيفه أو بالنتائج المترتّبة عنه. وعندما نشير إلى المبالغات هنا، فإنّنا نعني المبالغات التي تندرج تحت عنواني التهويل والتهوين معاً.
من المفارقات أن إحدى أولى المبالغات التي تمّ الترويج لها بشدّة في المراحل الأولى لانتشار الفيروس والتي ساعدت ربما على إصابة عدد كبير من الناس هي الادعاء القائل بأنّ فيروس كوفيد-19 هو كالإنفلونزا العادية. كثيرون استخدموا هذا التشبيه للتقليل من خطر الفيروس وأرفقوا مزاعمهم هذه بأرقام تشير إلى عدد ضحايا الإنفلونزا المرتفع على المستوى الدولي سنوياً.
مثل هذه المقارنة تنطوي على تضليل كبير سواءً تمّ ذلك بقصد أو بغير قصد، إذ يفوت أصحاب هذا المذهب أنّ الشروط بين الحالتين غير متطابقة، وبالتالي فإنّ القياس غير صحيح. بمعنى آخر، فإن المقارنة الصحيحة تتطلّب أن يتمّ ترك كوفيد-19 يأخذ مجاله بشكل طبيعي دون أي إجراءات احترازية أو قيود من أي نوع. هناك أيضاً مسائل أخرى عرضها المختصّون في التنبيه من خطورة مثل هذه المقارنة وهي أنّ فيروس كوفيد-19 مُعد بنسبة عالية جداً ويستهدف الرئة بشكل كبير. ومن الواضح أنّه في ظروف من هذا النوع، يتبيّن مدى فداحة الخطأ في التهوين من خطورة كوفيد-19.
إنّ تجربة الأنظمة الديمقراطية ليست واحدة في نهاية المطاف، واختزالها بتجربة دولة واحدة لا يمكن أن يٌفهم إلا في سياق الترويج للأنظمة الشمولية.
من المبالغات الشائعة أيضاً في الحديث عن التداعيات المحتملة لهذا الوباء القول بأنّه سيؤدي إلى ولادة نظام دولي جديد. صحيح أنّ النظام الدولي يتأثر بالمتغيرات التي تطرأ على المشهد الدولي، لكن الوباء بحد ذاته لن يؤدي إلى ولادة نظام دولي جديد لعدّة أسباب. أولاً، النظام القائم حالياً يتآكل منذ مدّة، لكن ليس في الأفق ما يشير إلى تحوّلات جذرية في المشهد. بمعنى آخر، فإنّ الفيروس والأزمة الاقتصادية التي تصاحبه ستسرّع من المعطيات القائمة ولكنّها لا تأتي بجديد من هذه الزاوية.
ثانيا، عادة ما يولد النظام الدولي نتيجة صراع وحروب دموية بين قوى دولية ـ أي فاعلين دوليين ـ يكون فيه فائزون وخاسرون، وليس نتيجة أمراض وأوبئة. وبالتالي فإنه ما لم يؤد الوباء إلى حرب مباشرة الآن، فإنّه من غير المحتمل أن يؤدي إلى ولادة نظام دولي جديد. صحيح أنّه سيسرّع ربما من تراجع الولايات المتّحدة وتقدّم الصين، لكن هذا العامل غير كافٍ وحده للحديث عن ولادة نظام عالمي جديد. ربما من الدقة بمكان الحديث عن اتجاهات داخل النظام الدولي سيؤدي الفيروس إلى تقويتها أو إضعافها كنزعات التطرّف واليمين والسلطوية والقومية والانعزالية.... الخ.
إن كان من المفهوم أن تنتشر مثل هذه المبالغات في بداية الأزمة نظراً للصدمة التي أحدثها الفيروس والتغييرات التي أدخلها على نمط عيش الناس في الكثير من البلدان حول العالم، وتغييره لمعالم الحياة كما عهدناها، إلاّ أنّه لم يعد مقبولاً التعايش معها الآن
من المبالغات المتعلقّة بالمقارنات غير السويّة تعظيم آداء بعض الأنظمة الشمولية التسلّطية القمعيّة في مواجهة الوباء مقارنة بأداء الأنظمة الديمقراطية. بالرغم من أنّ هذه المقارنة جّذابة لكثيرين إلاّ أنّها ليست واقعية. فحالة الحجر والعزل سواء الطوعية أو الجماعية تتطلّب التزاماً ذاتياً بالدرجة الأولى. ولأنّ هذه الإجراءات تعتبر بمثابة تقييد للحريّات فمن الصعب أن تلقى استجابة ذاتية سريعة. الفرق بين الأنظمة الديكتاتورية والأنظمة الديمقراطية هي أنّ الأولى تستطيع أن تفرض مثل هذه الإجراءات بسرعة أكبر لأنّ تقييد الحريات في نهاية المطاف يُعتبر من اختصاصاتها الأصيلة، فيما الوضع مختلف تماماً بالنسبة إلى الأنظمة الديمقراطية.
علاوةً على ذلك، فإنّ تجربة الأنظمة الديمقراطية ليست واحدة في نهاية المطاف، واختزالها بتجربة دولة واحدة لا يمكن أن يفهم إلا في سياق الترويج للأنظمة الشمولية. صحيح أنّ الأنظمة الديمقراطية بدت في هذه الأزمة شديدة البيروقراطية وبطيئة وتعاني من مشاكل جمّة، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الأنظمة الديكتاتورية هي النموذج المنشود! علينا ألا ننسى دوماً أنّ غياب الشفافية والكذب وتكميم أفواه الأطباء هو الذي أدى إلى حرمان العالم من فرصة مكافحة الفيروس في وقت أبكر.
وإن كان من المفهوم أن تنتشر مثل هذه المبالغات في بداية الأزمة نظراً للصدمة التي أحدثها الفيروس والتغييرات التي أدخلها على نمط عيش الناس في الكثير من البلدان حول العالم، وتغييره لمعالم الحياة كما عهدناها، إلاّ أنّه لم يعد مقبولاً التعايش معها الآن سيما وأنّ مواجهة الفيروس تتطلب منا أيضاً أن نكافح الشائعات ونظريات المؤامرة التي باتت تنتشر في كل مكان والتي تؤثر على الصحة النفسية والذهنية للمتلقي وللمجتمع بشكل كبير لاسيما في ظل الظروف الضاغطة التي نعيشها اليوم.