النعم بين الإلفة والنكران

الرئيسية » بصائر تربوية » النعم بين الإلفة والنكران
rsz_muslim-man-prays-

أشد الأمراض فتكا تلك التي تستتر في أجسادنا وتقتات من صحتنا ونحن في غفلة عنها فأعراضها مستترة، حتى إذا ما تخمت من دمائنا وأجسادنا بدت آثارها وعلاماتها ظاهرة للعيان وقد وصل المريض لمرحلة لا أمل له في النجاة منها إلا جميل الثقة وحسن الظن بالذي يقول للشيء كن فيكون، وعُرفت هذه الأمراض بالخبيثة لخبث طبيعتها وعملها السري في جسم الإنسان من غير علامات أو مؤشرات تنبهه وتحذره من خطر المرض ومعوله الهادم في صحته.

وإلف النعمة وتعوّدها مرض خفي إذا أصابنا أفقدنا بركة القليل وزيادة الكثير ، والله تعالى يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فالضمان والكفيل لحفظ هذه النعم وزيادتها إنما هو شكرها، والشكر يتجاوز النطق باللسان فكم من شاكر لسانه ومنطق قلبه وحاله في نكران وجحود، بل يتجاوز الأمر ذلك ليبلغ المرء مرحلة من العتو والبطر والجحود أن لا يستشعر أساساً بالنعم التي أمده الله بها ابتداء، وما ذلك إلا لأنها صارت جزءاً روتينياً في حياته اعتادها ومن شدة اعتيادها فقد الشعور بوجودها.

فخذ مثلا الصحة والفراغ، وكم منا قد متعه الله بهاتين النعمتين، لكن أين الشكور بل أين من الأساس من يتفكر على أنهما نعمة أكرمه الله بهما في وقت يتمناهما كثير من الناس!

وقد قالوا: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لكن لا يرى هذا التاج إلا من فقده ولسعت سياط الألم والمرض من جسده وروحه، وكثير من الأصحاء إلا من رحم الله يتقلبون بهذه النعمة وهم عنها غافلون لاهون فإلفهم لها أفقدهم الشعور بها، وبضدها تعرف الأشياء إذ لا تعرف فضل الصحة إلا بالمرض وفضل البصر إلا بالعمى وهلمّ جرا!

لذلك انظر لمعلم البشرية والرحمة المهداة إذ يقول عليه السلام: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" (رواه البخاري).

وفي قوارع المصائب والنوازل يصبح للإنسان بصر وإدراك وفهم غير إدراكه وفهمه وبصره حال الرفاه والنعمة ، وما الذي يعيشه العالم اليوم إلا مثالاً صادقاً على ذلك، وإن منا ما زالت الغفلة تحاصره فتجده متحجراً متسمراً لا يحرك ساكناً، بل تجده أقرب ما يكون للكسل والنوم والدعة إذ يقضي وقته متنقلا بين فراش النوم وأريكة الجلوس أمام التلفاز منتظراً أن تعود المياه إلى مجاريها ليعود لرتابة عيشه وممارسة عاداته وكأن شيئاً لم يكن!

ومنا من شمّر عن جد العمل وترتيب أوراقه وأولوياته لاستغلال الفراغ الذي أحدثه وباء قلب الأمور رأسا على عقب على وجه هذا الكوكب.

ولو منحنا أنفسنا جزءاً يسيراً من الوقت نتفكر بما صرنا إليه لأدركنا حجم النعم التي كنا نرفل بها، وقد غيبتنا إلفتنا لها عن تقديرها حق قدرها، لو تفكر الواحد منا قليلا لأدرك أن وظيفته التي كان ينظر لها على أنها حق طبيعي لمؤهله العلمي بل هي حقيقة أقل من مستواها لأدرك اليوم وهو عاجز عن الوصول لمكتبه كم كانت هذه نعمة عظيمة لم يدركها وقتها، اجتماعه بالأهل والأصحاب، التنقل والسفر والسياحة في أرض الله، بل والحصول على حوائجه من السوق بحرية دون التحجير عليه بالزمان والمكان، لأيقن أن هذه النعم التي طالما كانت تحيط به قد أصبحت في ظروفنا عزيزة المنال نادرة التوفر، إلا بتنظيم من قبل الجهات المختصة على أفضل الحالات.

إن اعتيادنا على النعم وملازمتها لنا بشكل دائم أوقعنا في إشكالين:

الأول: أننا ألفنا هذه النعم وصارت جزءاً أصيلاً من حياتنا لشدة اعتيادنا عليها وملازمتها لنا ملازمة جلودنا لأجسامنا وأنفاسنا لصدورنا وكأننا كنا في مأمن من فقدها يوما ما أو كأننا أوتينا ميثاقاً غليظا على دوامها، فما تألفه وتعتاد عليه عادة يؤدي إلى الغفلة عن عظيم الفضل علينا، فلا نتذكره إلا بفقدانه ومكابدة الحياة بغيابه وقتها ندرك الهوة والفرق بين وجوده وعدمه.

الإشكال الثاني: أننا بتنا نشعر باستحقاقنا لهذه النعم وكأنه حق لنا نكتسبه من الله لا تفضلاً ومنّاً منه تعالى علينا ابتداء، وهذا يؤدي إلى البطر وعدم الشكر والنكران والجحود، بل وعدم استخدام هذه النعم في الوجهة التي ينبغي لها وفق مراد الله تعالى.

إن ما نمر به إن هو إلا لقرع باب لإيقاظ من طال سباته، أو قل هو النكزة التي نمارسها اتجاه شارد الذهن، فكم من نعم كنا نتقلب بها آناء الليل وأطراف النهار، من يقظة الفجر واستعدادنا ليوم حافل بالواجبات والأعمال، اجتماع الأصدقاء والأحباب الأهل والإخوان نعم ما كنا ندرك عظمها إلا عندما فقدناها.

رحمة الله تتجلى في كل ما حولك من أحداث وظروف ولو كانت في عكس مزاجك وهوى نفسك ، وخططك اليومية مرورا بالأسبوعية والشهرية انتهاء لخطتك السنوية، فالابتلاء بسلب شيء من النعم التي اعتادها العبد تربية لنفسه البشرية وتنبيها لها أن دوام الحال من المحال، وأن الكيّس من استثمر فيما أتاه الله ليوم يشهد له أو يشهد عليه، وأن السلب لكثير من الأمور والأشياء في حياتنا والتي حيل بيننا وبينها جعلنا ندرك أننا لسنا نملك شيئاً من أمورنا ولا نستحق أساساً من تلك النعم التي أكرمنا الله بها، وإنما رزقنا إياها كرماً وتلطفاً وإنعاماً.

لذا فمن واجب الوقت الآن أن يتعامل المسلم بما يحيط به من ظروف بالآتي:

1.استشعار فضل الله عليه بكل أحواله وما عند الله لا يطلب إلا بطاعته، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته" (رواه الطبراني في المعجم الكبير)، والانشغال بالموجود فضلا عن الانشغال بالمفقود فتُحرم من نعيم الموجود وقد لا تدرك المفقود، فهذه النفسية عدوة لصاحبها إذ تعكّر عليه حاضره وماضيه وتكون بمثابة المعول الذي يهدم مستقبله وتساهم في ضياعه.

2.أن يركز على سعيه في دربه إلى الله فيسابق بنفسه إلى الله على أي حال كان، فلا ينتظر الصحة إن كان مريضاً، ولا الغنى إن كان فقيراً، ولا العودة لوطنه إن كان غريباً، فربما كان الموت أسرع إلى نفسه من طرفة عينه، ولا تشغلنه الملهيات على جنبات الطريق من مواصلة مسيره إلى موطنه الأصيل وحياته الباقية.

3.أن لا ينظر لمن هو فوقه في منح الحياة امتثالاً لأمر رسوله الكريم: "انْظُرُوا إلى من أَسْفَلَ مِنْكُمْ ولا تَنْظُرُوا إلى من هو فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ" (رواه مسلم)، فإن ذلك ينزع من قلبه الرضى ويقوده لاستصغار النعم التي يتقلب بها عند كل مشابهة ومقارنة فيبيت ساخطا غاضبا قوّض أسس استقراره بيده.

4.أن ينظر لما أكرمه الله به من عافية في جسده ومأمناً في سربه فيستشعر عظيم فضل الله عليه فغيره لا يملك سكناً ولا مأوى ولا لقمة تسد الرمق.

5.أن يؤدي حق الله فيها من شكر يتجاوز اللسان فيترجمه في واقع حياته، فيتلمس العثرات ويقيلها ويساهم في قضاء الحاجات ضمن سعته وطاقته، فقد يكون الشكر أن يبذل أحدنا من ماله وآخر يواسي في نفسه وآخر بجهده وهكذا كل حسب ما آتاه الله من إمكانيات.

استحضر فضل الله عليك في الشدة والرخاء، في الصحة والمرض، في العسر واليسر، واشكره على جميل لطفه وإنعامه، ولا تبخس النعم حقها وإياك أن تستصغرها فيبتليك بفقدها لتعلم أي جاحد كنت في ما مضى، وإياك أن تخرج مما ابتلاك كما دخلت بلواك، فإن لم تهذبنا النعمة ولم تنقينا الشدة وإن لم تُحن كريم عطاياه رقابنا شكرا واعترافا، وإن لم تدفعنا البلايا للجثو على بابه ذلاً وعبودية، فما علمنا ولا فقهنا ولا سمونا في عبوديتنا.

وتذكر شكر الجليل في الفعل قبل القول، وأول الشكر أن تعترف بآلاء نعمائه عليك، وتبادر بإصلاح ما أفسدت في سالف أمرك.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …