الرثاء للذات، الشفقة على النفس، الإحباط من عدم الجدوى، اليأس من تغير الحال، ضمور تقدير الذات، السخط على الذات، الحنين للماضي والأنين من الحاضر، العويل الوجداني والهمود الروحي... إلخ، كل تلك واشتقاقاتها حالات لا حلول، وكأية حالة نفسيّة لها قدر طبيعي ودرجة سويّة ويذوق منها كل حيّ بالضرورة بمقدار، لكن الإغراق في الحالة يحيد بصاحبه قطعاً عن حدّ الاعتدال فيصرفه عن إبصار مكامن الحل، وأقصد بالحل هنا (التحقق بالفهم) فتلك حقيقة الحل ونور الفرج -لا مجرد (الخروج من الحالة) والفكاك من أسرِها، وهو نوع الخلاص الذي ينتظره غالبية الأسرَى- فكأن الحالة لك كانت وسيلة معايشة الحل، فتخرج منها متجدّداً لا مُستهلكاً، ومستقبلاً ما يلي لا خاتماً قبل الأوان، وفاهماً على الحقيقة بعد أن كنت تظن أنك فاهم، والفهم الذي يعنينا هنا ثلاثة أنواع:
- الفهم عن ربك
- فهم نفسك
- فهم حقائق الوجود وطبائع الأشياء
إن امتحان الوجود الذي نكثر ترداد اصطلاحه ليس ورقة صامتة، بل حياة صاخبة، وإجاباته ليست حبراً يُسطَر ذات مرة، بل أنفاساً تكابد مرة بعد مرة
إن امتحان الوجود الذي نكثر ترداد اصطلاحه ليس ورقة صامتة، بل حياة صاخبة، وإجاباته ليست حبراً يُسطَر ذات مرة، بل أنفاساً تكابد مرة بعد مرة، إنه امتحان حيٌّ يخوضه أحياء تمهيداً لحياة خالدة، لكن كم ممن يظن أنه يفهم وجوده والوجود من حوله، وحقيقة الأمر أنه يعلم ولا يفهم! يعلم قواعد وقوانين ومعادلات علماً تقريرياً مصمتاً، بلا إدراك مقتضاها ولا استشعار لحياتها أو إمكان الحياة بها، وكل ما ذكر من حالات في البداية مردّها لنفس غير فاهمة على الحقيقة: لا تفهم ما الذي ينبغي أن تتعلمه، ولا تفهم ما تعلمت، ولا تفهم لماذا تعلمت، ولا تفهم قيمة الفهم لكل ذلك، إنها نفسٌ لم تفهم ما حولها، ولا فهمت عن ربها، ومن باب أولى لم تفهم نفسها!
تأمل في وصفه تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]، ورد في تفسير القرطبي: "شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام، وقيل: شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها"، وفي تفسير ابن كثير: "كانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وهم مع ذلك في غاية الضعف، والخور، والهلع، والجزع، والجبن"؛ فمن لم يرسخ في أرض نفسه سيتبعثر مراراً وسط مجريات الحوادث وحادثات الحياة، التي يمر بها كل حيّ غيره وليس فيها فرداً ولا بِدعاً، وإنما مكمن الافتراق بين حي وحي في امتحان الأحياء هو ذلك الرسوخ في أرض النفس وصحة أصولها ، ومدى معرفته بها وفهمه لها ولنهج التعامل مع أطوارها.
دوّامة الحالة ورحلة الحل كلاهما يأكلان من العمر، لكن الأولى تنقصه من أطرافه والثانية تزيد من ثرائه
هذا والمكابد في الحل يرجو عند الله ما لا يمكن أن يرجوه مكابد الحالة، وإن كان كل في كبد، فدوّامة الحالة ورحلة الحل كلاهما يأكلان من العمر، لكنّ الأولى تنقصه من أطرافه والثانية تزيد من ثرائه، والأولى توقع صاحبها بالضرورة في درجة من سوء الأدب مع ربه طوراً بعد طور، والثانية تعلمه وتربيه وترقيه في مدارج الاتصال بربه في كل أطواره.
كذا وعد ربنا تبارك وتعالى، فمن يُصَدِّقُ ربّه ويكذّب سوء فهمه؟