من صميم عقيدتنا أن نؤمن بأن عقولنا القاصرة لا يمكنها أبدًا الإحاطة بكل ما تشمله حكمة اللهِ تعالى من أي أمرٍ خلقه أو افترضه علينا، بما في ذلك القوانين التي وضعها في خلقه، بشرًا وجمادًا وحيوانًا، وفي أي صورة من صور الحياة والخلْق.
وكما علَّمنا اللهُ تعالى؛ فإن ذلك الأمر خلفه –بدوره– الكثير من جوانب الحكمة الإلهية الخافية، من بينها أن يدفعنا إلى التعلِّم والفهم، من خلال الاجتهاد والتدبُّر.
وأهمية ومركزية ذلك كبيرة، فهناك –على سبيل المثال– قاعدة معروفة من أنه لا يمكن فهم القرآن الكريم واستخلاص أحكامه من دون تدبُّر واجتهاد. أي أن القراءة الظاهرية للنَّصِّ القرآني ليست كافية لفهم مرادات اللهِ تعالى من النَّصِّ.
وشهر #رمضان المبارك ليس بدعًا من ذلك، وبالتالي؛ فإن فيه الكثير من الأمور بخلاف فريضة الصيام، وما اعتدنا عليه من عبادات أخرى، مثل ختم القرآن الكريم والقيام وغير ذلك.
ويأتي رمضان هذا العام في ظل ظروف استثنائية مختلفة عن كل عام، وهي ظروف فيروس "كورونا المستجد" أو وباء "كوفيد- 19"، والتي ربما –أي هذه الظروف– بالرغم من أنها تبدو ذات تأثيرات سلبية عميقة على العلاقات الاجتماعية وسياقات الحياة الاقتصادية والمعيشية للأفراد والمجتمعات؛ إلا أنها –أي ملابسات الوباء– ككل أقدار اللهِ تعالى علينا؛ لها جوانبها المتعددة، فكما أن فيها جوانب سلبية؛ فإن منها ما هو إيجابي.
ولعله من غريب القول للوهلة الأولى أن نشير إلى أن الظروف التي فرضها الوباء تتلاءم أكثر ما تتلاءم مع كثير من الجوانب التي يحتويها الشهر الفضيل في طبيعته وفي المناشط التي اختصها اللهُ تعالى به، وجرت عليها سُنَّة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
ولكن بشيء من التدقيق سوف نقف على الكثير من هذه الجوانب.
فأول ما جعله كورونا فينا، هو العزلة، والعزلة هي سلطان العلماء والمفكِّرين كما نعلم، ولعلها من أهم خصائص العبادة في شهر رمضان .ففي السُّنَّة النبوية وفِعْل السلف الصالح، نقف أمام الكثير من المعالم التي تشير إلى أن الخلوة بين العبد وربِّه تبارك وتعالى، تغلب على الكثير من أوقات اليوم.
فهناك لحظات قراءة الوِرْد القرآني التي يخلو فيها الإنسان بكتاب ربِّه، وهناك ساعات ما بعد صلاة العصر، ولحظات ما قبل الإفطار، وهناك صلوات التهجُّد والتسابيح، وعبادة القيام من صلاة وقراءةٍ للقرآن، والاستعداد لصلاة الفجر، والثواب الموضوع للمكوث في مقام صلاة الفجر حتى الشروق.
في الحقيقة؛ فإن رمضان هو شهر الخلوات العظيمة، والتي خسرنا منها الكثير في سنوات أعمارنا الماضية بسبب نمط الحياة التقليدي الذي نحياه. الاستيقاظ للذهاب للعمل، ثم العودة مكدودين، والأنشطة الاجتماعية المُبالغ فيها؛ كل ذلك ابتلع الساعات المخصصة لعبادات رمضان الفريدة في حقيقة الأمر، والتي كثيرٌ منها لا يمكن الوصول إليه في باقي أيام العام.
رمضان هو شهر الخلوات العظيمة، والتي خسرنا منها الكثير في سنوات أعمارنا الماضية بسبب نمط الحياة التقليدي الذي نحياه
كل هذا –وهو ما يجعلنا نزداد إيمانًا باللهِ تعالى، والرضا بقضائه وقدره مهما بدا لنا آثاره السلبية– يقول لنا بأن كورونا، أو بمعنىً أدق، الظروف التي فرضها، فيها الكثير من الخير.
بل إن هذه الظروف أعادت صلاة التراويح إلى أصلها الذي أدَّاه عليها الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وهو ما سوف نختبر حلاوته وحلاوة الخلوة فيه مع اللهِ تعالى.
كما أنها جعلت الاعتكاف أكثر سهولة؛ حيث إنك لن تكون في موقف صعب بين ظروف عملك وظروف الاعتكاف.
أيضًا؛ الخلوات الطويلة سوف تعطيك فرصة أكبر لختم القرآن الكريم أكثر من مرَّة، وقيام الليل أطول من المعتاد ؛ حيث إنك لن تكون مضطرًا للاستيقاظ المبكر أو مواصلة جدولك اليومي بعد صلاة الفجر أو شروق الشمس إذا ما كان الإنسان ممَّن يقومون بسُنَّة المكوث والتعبُّد في موضع صلاة الفجر حتى الشروق.
إذًا هي فرصة نغتنمها لأداء واجباتنا الأساسية التي افترضها اللهُ تعالى علينا في رمضان، وهي العبادات بأشكالها المختلفة.
إلا أن الفوائد أوسع من ذلك؛ حيث إن الخلوة الطويلة، فيها الكثير من المعالجة لأدران النفس، وفيها الكثير من الفرص لتنقية الأجواء بيننا وبين أنفسنا، وبيننا وبين الآخرين، وصولاً إلى مستوى ما بيننا وبين الخالق عزَّ وجل.
إن الأمر في هذا الجانب أشبه ما يكون بالصور التي تداولتها وكالات الأنباء مؤخرًا عن حالة نقاء وصفاء الأجواء في مدن العالم المختلفة، بسبب توقف الأنشطة الصناعية ووسائل النقل والمواصلات، وغيرها من صور الأنشطة البشرية المختلفة التي كانت تقف خلف تلوُّث البيئة، واختفاء جمال الخلق الإلهي وراء الغبار والدخان المتصاعد من المصانع وعوادم السيارات، وغير ذلك من مصادر التلوث.
إن أنفسنا ملوثة بسبب صنج الدنيا. بكل تأكيد.. فيها الكثير من طبقات الغبار. بكل تأكيد، ولكن ها قد أتتنا الفرصة لكي نقوم بإصلاح كل ذلك. شهر كامل في معية اللهِ تعالى، وفيه وضع اللهُ تعالى الرحمة والغفران والقبول، وجعل لنا الأدوات والوسائل، وجعل لنا المعينات، بدءًا من تخفيف الصيام والعبادة على النفس كما نلمس جميعًا، وصولاً إلى تصفيد مَرَدَةِ الشياطين، وغير ذلك.
الخلوات الطويلة أيضًا تساعدك على القراءة وإتقان المهارات التي تريد، كما أنها تخلق لك الفرصة للتأمل . التأمُّل الإيجابي الذي يقودك إلى تقييم شامل لحياتك. ماذا فعلت، وماذا تفعل. أنْ تتساءل؛ لماذا أنت هنا في هذا العالم. ما الذي أنجزته. ما الذي قصَّرت فيه، وما هي الواجبات التي يجب عليك أن تقوم بها لاستكمال النواقص وإصلاح العيوب.ها قد أتتنا الفرصة لكي نقوم بإصلاح كل ذلك. شهر كامل في معية اللهِ تعالى، وفيه وضع اللهُ تعالى الرحمة والغفران والقبول، وجعل لنا الأدوات والوسائل، وجعل لنا المعينات، بدءًا من تخفيف الصيام والعبادة على النفس كما نلمس جميعًا، وصولاً إلى تصفيد مَرَدَةِ الشياطين، وغير ذلك
في حقيقة الأمر؛ فإن كورونا قد وفَّر لنا أهم ما كنا نفتقده، وهو عامل الوقت. قد يقول البعض إن النفوس قلقة حائرة بسبب التساؤلات حول المصير وضائقة العيش، وكلها أمورٌ تؤثِّر على أعصاب الإنسان، وخصوصًا أصحاب الأُسَر والأطفال.
هنا نقول بأن أيضًا شهر رمضان سوف يكون فرصة عظيمة لكي تجدد ثقتك في ربِّك، ويقينك به ، وبأنه مجرَّد أن يكون معك؛ فهذا هو أكبر عامل أمان لك، بل إنه عامل التوفيق والأمان الوحيد في واقع الأمر، بينما كل الأشياء الأخرى، هي مجرَّد أسباب، هو خالقها، وهو الذي يحرِّكُها.
كذلك أن نفهم حكمة اللهِ عز وجل في هذا الابتلاء، وأن نتفاعل بشكل أكثر إيجابية مع ما قضاه وقدَّره علينا. ألا نقسو على أنفسنا لأننا سوف نقرأ في القرآن الكريم كيف أن الصحابة أنفسهم رضوان اللهِ تعالى عليهم، وهم أكثر مَن في الأرض وقتها إيمانًا بعد النبي "عليه الصلاة والسلام"، قد بهم القلوب الحناجر وظنوا باللهِ الظنون في موقف "الأحزاب" المعروف. في القرآن الكريم سوف نقرأ كيف كان اللهُ تعالى بهم لطيفًا، ولم يعاقبهم على ظنِّهم هذا، ولم يتوعدهم بنار جهنَّم، ونَصَرَهُم في النهاية، وطيلة الآيات؛ نراه سبحانه يصفهم بالمؤمنين.
يقول تعالى في سُورَة "الأحزاب": {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11)}، ثم تترى الآيات حتى نصل إلى قوله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (24)}.
في الحقيقة؛ فإنه في ظل النفحات التي يقدمها لنا الشهر الفضيل؛ فإنه بيقينٍ هدية من اللهِ تعالى لنا في ظل هذه الظروف؛ حيث شاءت حكمته أن يتزامن هذا الشهر بكل روحانياته وسَكِينَتِه مع ابتلاء الوباء لكي يكون لنا رحمةً وكفكفةً لدموعنا، دموع العاجزين، وطبطبةً ورفقًا بنا كمسلمين وبغيرنا من حولنا؛ حيث نحن قومٌ لا يشقى جليسُهم كما قال رسولنا، رسول الرحمة صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وفي هذا –بالتأكيد– صورة من صور رحمة ربي اللا متناهية، والتي هي خيرٌ مما يجمعون.