الغاية من الخلق هي عبادة الله الجليل وهي المقصد الأسمى ووظيفة الإنسان العظمى التي شُرف بها، وقد أكرمه الله تعالى بوسائل وإمكانات ليوظفها ويستخدمها في وظيفته هذه فتكون له عوناً وسنداً، إلا أن الإنسان غرته مباهج الدنيا وزينتها فشغلته عن غايته التي من أجلها خلق وعنها سيحاسب ويُسأل، ونسي في خضم عيشه وتحقيق مآربه أن حياته دار ممر لا مستقر فعمّر دار العبور وانشغل بها عن دار القرار وعمّر القصور وتشاغل عن القبور، وصار انشغاله بالمقصود يأتي عرضاً ويقتطع له وقتاً ضئيلاً من مجمل وقته فيؤديه بسرعة حاضر الجسد غائب الذهن والقلب، فيؤدي واجباً عليه ليعود إلى انغماسه في إعمار هذه الحياة الدنيا، وقد نسي العبد المسكين أن هذا الوقت المقتطع الذي يؤديه على عجلة من أمره إنما هو رصيده الحق استثماره لدار خلوده وبقائه واستمراره.
وما كُلف به الإنسان من عبادات إنما هي الحبل والسبب الذي يصله بخالقه ومولاه من ضمن أسباب كثيرة، وجاءت هذه العبادات متنوعة لا تقتصر على شكل واحد كما أنها موزعة على مدار العام وكان رمضان العبادة السنوية التي يترقبها المسلمون مرة في العام فتأتيهم على فاقة فيجتمعون فيها على موائد السحور والإفطار والقيام من بعد صلاة العشاء فتعج المساجد بالمصلين.
غير أن رمضان العام هذا لا كغيره في سنوات خلت وقلوب العباد فيها من الأنين ما لا يخفى على أحد، وهم يدركون أن رمضان سيوافي الحي منهم في ظروف الحجر وانقطاع التواصل فيما بين الناس، وسؤال يحتاج لتأمل وعزم ونية صادقة وإجابة ترضي رب العباد عن العباد:
كيف نستقبل رمضان وصلوا في رحالكم تعلو مآذننا؟
ذعر الناس بإغلاق المساجد وتعطيل رحلات العمرة وعلامات الاستفسار المنطوقة من أفواههم والمرسومة على ملامحهم بكيف نؤدي عباداتنا قيامنا صلواتنا بلا جُمَعٍ ولا جماعات ولا صلاة جامعة لتراويح بل ولا رحلات تُسيّر للمساجد الثلاث!
والحقيقة التي يجب أن نواجه فيها أنفسنا ونسلّم بها يقيناً وإيماناً أنّ المسلم الذي يفهم عن ربه ويتعامل مع هذا الكون وما فيه على أنه وسائل إذا انعدمت وسيلة فلن يعدمه هذا من وسائل أخرى، بل يكفيك ويغنيك أن رب هذه الوسائل ومسببها مطلع عليك تتحقق عبوديتك له بالاتباع والتسليم والقبول والرضا بكل ما قدر وقضى ، وبهذا يستطيع العبد الذي يُسلم أمره لمولاه وسيده أن يتعامل مع المحنة على أنها منحة ربانية يستغل كل ظروفها وأجواءها ويقدم بين يدي ربه جهده ومعذرته وعزمه وهمته.
فلماذا لا نتعامل مع هذه الظروف والواقع المفروض اليوم علينا لنشتغل به على قلوبنا ونفوسنا فنخرج من دائرة عباداتنا التي اعتدنا عليها بنمط وشكل معين -لدرجة أن أصبحت عند البعض مجرد عادات وطقوس فقد فيها تذوقه الروحي وخفقه القلبي وكأنّ هذه المحنة جاءت لتجعلنا نركز على الأداء القلبي قبل الجسدي- وذلك من خلال التركيز على الآتي:
1. العبودية جزء لا يتجزأ منا ولا يفترق عنا، تحت أي ظرف كان؛ فنحن عبيد لله في الصحة كما المرض وفي السفر والإقامة بالحرب والسلم وهكذا، وانتشار وباء وإغلاق مساجد لا يعني تحجيراً أو إيقافاً لعبوديتنا بل تبقى عبوديتنا قائمة ولكن نؤديها في ظرفنا الراهن بما يتناسب مع تعاليم شرعنا، ألم تر كيف شرّع الشرع لنا صلاة الخوف لتناسب الحال والمقام دون أن ينقص ذلك من أجرنا شيئاً! فأنت مُثاب على الالتزام واتباع الشرع والله يُتعبد له كما أمر -جل شأنه- لا كما شاء الناس واشتهوا.
2. علينا أن نستقبل رمضان بقلب فتي حي، فلا إله إلا الله شهادة عز وافتخار لكل من يحيا بها قلبه فلا تبتئس فأنت في دائرة اللطف الرباني وتجليات الرحمة الإلهية ما دام قلبك عامراً بالشهادتين.
3. ما الضير في أن تكون الصلاة في رحالنا أو بيوتنا إن كان ذلك تماشياً مع تعاليم شرعنا! فقد صلى رسول الله وصحابته الكرام لأسباب أقل خطراً مما يحيط بنا كالبرد والمطر، فكيف بمرض ينتشر كما النار بالهشيم والخلطة الاجتماعية تزيده اشتعالاً؟ فالالتزام إذن بتعاليم الجهات المختصة التي تدعوا للحد من الاختلاط في كل مناحي الحياة وموافقة أهل الاختصاص من فقهاء وعلماء دين على ذلك، فيكون الالتزام بذلك واجباً شرعياً لا يجوز مخالفته تحت أي مسمى كان.
4. كل الأماكن هي لله والأرض كلها مسجد وطهور، وأينما تولوا فثمّ وجه الله، فلا تجعل من المسجد -الذي هو وسيلة- غاية عظمى إن تعذرت صلاتك فيه فقدت بوصلتك، بل اجعل قلبك محرابك الذي تعرج منه إلى الله وقبلتك وغايتك الله لا يحيطه -جل شأنه- زمان ولا مكان، فلا يصدك عنه ضيق المساحات ولا يشغلك عنه وسعها وتعدد سبلها، فلا تتعلق بالأسباب وتهجر المُسبب فيعود عليك ذلك بالخسران.
5. وأما إن كنت ترجو أجر الجماعة فدونك أهلك وأفراد عائلتك، بإمكانك أن تحوّل بيتك إلى مسجد مصغر فيشاركك أهلك في أجر الجماعة ومن ثم تجدد فيهم روح الإيمان فيكون اجتماعاً أسرياً في ظلال الله، فتغشى الرحمة بيوتنا فلا يقتصر اجتماعنا على مسلسلات السهرة وموائد الطعام.
6. لا تنظر لهذه الظروف بأنها غضب ونقمة بل استشعر رحمة الله فيك وأمرك كله خير؛ مصداقاً لرسول الله: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" (صحيح مسلم)، ولا تجعل تحسرك على أسباب كنت تتقرب من خلالها إلى مولاك أن تفقدك الشعور برمضان وإعداد العدة له، لا سيما أن لا أحد منا يعلم إن كان سيدرك رمضان آخر في قابل أيامه، فاغتنم فرصة بلوغك رمضان واستثمر واعمل فيه عمل عبد سيسأل عما قدم ضمن المتاح له ولن يسال عما حيل بينه وبينه، فمثلا المريض يحاسب على ما كُلف فيه حال مرضه لا حال صحته وهكذا.
7. الناس يشجع بعضهم بعضاً على العبادة والتسابق فيها لا سيما في رمضان، وهذه فرصة للنظر إلى نفسك، فهل تنشط بالعبادة وأنت خالٍ لا يقف على يمينك ولا شمالك بشر ولا يرقب أحدهم حال جوارحك وخشوعك وعدد ركعاتك أم تجد تثبيطاً وتكاسلاً، فهذه منحة لأنك من خلالها تتعرف على حقيقة نفسك فتبادرها بالعلاج كلما تراءى لك منها خلل أو ثغرة.
8. أما بالنسبة لزيارة الأماكن المقدسة وصلاة الجُمع والجماعات في بيوت الله فحسبك نيتك وتأمل بشرى نبيك المبعوث رحمة للعالمين:
عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في غزاة فقال: "إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر" (صحيح البخاري)، بل وبإمكانك أن تضاعف الأجر فتعيل أسرة فقيرة أو أيتام أو طلبة علم بما كنت قد رصدته من أموال لهذه الرحلة لأي بيت من بيوت الله الحرام، وانظر لعظمة أجرك عند من يعاملنا برحمته ولطفه وكرمه.
وأخيراً شتان بين من يقيم شعائر الله في قلبه وبين من تؤديها جوارحه في معزل عن قلبه فقد قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحج:37]، فتكاليف الشريعة روحها وقوامها عبوديتك الخالصة لله تؤديها بروح العبد الذي يستقيم كما يريد سيده لا أن تؤديها كعادة اعتدت عليها فأصبحت حركاتك كآلة لا روح فيها.
وتذكر أنك لا تعبد رمضان بل رب رمضان تعبد، وعبادة رب رمضان الجليل لا تقتصر على صلاة للتراويح جامعة بل رب شربة ماء تفرغها أو لقمة تضعها في فِيه جائع أو ظامئ تفوق قيام ليلتك تلك ، فلا تحجّر واسعاً فالعبودية أوسع من ركعات في مسجد أو زيارة لمسجد من مساجد الله الثلاث، وتأمل بما روي عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم: قالت قلت يا رسول الله: أفتنا في بيت المقدس. قال: "أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال: فتهدي له زيتاً يسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه" (سنن ابن ماجه)، فهل وجدت أكثر سعة ورحمة من هذا الشرع الحنيف؟