إذا تركنا جانباً ملابسات الظروف واختلاف طبائع الناس في المعاملات، وتأملنا بتجرد أثر الخطأ على نفسية المُقِر بخطئه، سنجد أنهما إجمالاً أثران:
الأول/ فورة غضب وعصبية انفعال، لماذا يغضب المخطئ إذا كان مُقرّاً بخطئه؟ ثمّة احتمالان هنا:
- إما أنّ المخطئ عزّت عليه مخالفة سلوكه لما يقتضيه اعتقاده ومبادئه، فغضبه ناجم عن صدمة مفاجأة ونوع إحباط من سوء تصرّفه، وهذا شعور محمود إذا صحّ واتّزن قدره سيقود صاحبه بالضرورة للأثر الثاني المحمود والمقصود من الخطأ.
- أو أن المخطئ كَبُر عليه صدور مثل ذلك الخطأ من "مِثلِه" فضلاً عن مواجهته أو مصارحته به على نحو معين، وهذا شعور مذموم وأصله بذرة استكبار في نفس صاحبها، تلتفت لشخصه لا لبشريته، ولفوقيته على الخطأ لا استصحابه له، والغالب أن مثل تلك الشخصية عامرة بالآفات الباطنة والتصورات الخاطئة وسوء تقدير حدود الأخلاق وموازين الانفعالات، ولا تواجه ذلك الباطن لغفلة أو تغافل، خاصة إذا كان سياق حياتها ومعاملاتها سطحياً أو لا يحكّ فيها ذلك الباطن، ولذلك تُصدَم صدمة تجعلها تلقائياً ودون تفكير تدفع الخطأ الواحد عن نفسها بألف فوقه، فتتعالى بدل أن تتعلم، وتسخط على نفسها التي أوقعتها في ذلك الحرج بدل أن تحاورها لتربّيها، وتحقد على الطرف الذي استفز فيها ذلك التفريط، أو تجزع لاهتزاز صورتها بدل الالتفات لإصلاح بحقيقتها... إلخ، والأدهى أن تمعن في هذا المسلك المتكبر ظنّاً أنها "تعاقب" نفسها به؛ لأنه مسلك متلبس بلباس السخط وعدم الرضا، والتكبر يعني الرضا من المتكبر بما هو عليه! وليس الأمر كذلك، فالكِبر يكتسي بالسخط كما الرضا، وفي نفس كل بني آدم بذرة كبر لها ألف صورة وألف مدخل ، ولا يدحرها على الحقيقة إلا كسوة العبودية وتربيتها، كما يلي.
الأثر الثاني/ انكسار ندم وحُرقة أسف، ناشئتان من إقرار المخطئ بخطئه مع تقبله لحقيقة أن الخطأ وارد من كل بني آدم مهما اجتهدوا، وإدراكه أن الخطأ بحد ذاته ليس خطأ، وأن ميدان الامتحان الأصعب هو التجاوب مع ما بعد ارتكاب الخطأ؛ فالتوقف عند مجرد التشنج والغضب والوحشة ليس خياراً مقبولاً ولا مطروحاً، وصاحب تلك النفسيّة لا يلج في الجدال والحجاج عن نفسه، ولا يطيل أمد التشاحن والتحارب الداخلي، بل يصرف ذلته وكسرته أولا لربه تعالى استغفار واستعفاء، ثم يعقل لجام نفسه ويفكر في كيفية التصحيح والتقويم ابتغاء مرضاة الله وتصديقاً لتوبته، وفق ما بيّنه ربه في مختلف أحوال الخطأ وأطراف علاقته، ومن كان هذا نهجه تتربى نفسه ويشتد عود نفسيّته ومتانتها، فيتجاوز الأخطاء تجاوزاً محموداً بناء، بغير عقد نفسية وحروب كونية وانفعالات جنونية.
ميدان الامتحان الأصعب هو التجاوب مع ما بعد ارتكاب الخطأ؛ فالتوقف عند مجرد التشنج والغضب والوحشة ليس خياراً مقبولاً ولا مطروحاً
لذلك كان خير الخطائين التوابون، لا الساخطون ولا الصائحون ولا الغاضبون ولا النائحون ولا الدراميّون ولا الجلادون للذات... إلى آخر صور التفريغ الخاطئة في التعامل مع الخطأ، والتي لا تخلو جميعاً من بذرة استكبار، سواء أدركها صاحبها من نفسه أو لا، ذلك أن باب التوبة لا يفتح إلا لمن طابت نفسه بحقيقة العبودية ، وربى نفسه على إساغة طعم الذلة في الله ولله وعلى النحو الذي يرضاه الله ويأمر به، فثمة نفوس مهينة تتذلل للخلق فوق ما يُحمَد بدعاوى ظاهرها محمود كالحب والتقدير مثلاً، ثم تستعز على الخالق وتأنف حيث أُمِرَت بالتذلل وخفض الجناح ولو لمن لا تهوى، فحالها كحال النفوس المستكبرة في مخالفة مقتضى العبودية والبعد عن مرضاة الله، وإن تمسّحت بمسميات وشعارات فيه.
إن الله تعالى بيّن للعباد ما يرضيه منهم ومنهجه لهم، فمن صدق في طلب الله أخذ بما بيّن الله على ما بيّن، وربّى نفسه على أدب الامتثال لربّه في كل أطواره
إن الله تعالى بيّن للعباد ما يرضيه منهم ومنهجه لهم، فمن صدق في طلب الله أخذ بما بيّن الله على ما بيّن، وربّى نفسه على أدب الامتثال لربّه في كل أطواره، أما من يتبع مزاج هواه وتقلبات نفسه وظنون فكره، فهِجرته إلى ما هاجر إليه، على شرط أن ينسب مأساة حاله لنفسه ونكد عيشته لمنهجه في المعيشة، هذا والمؤمن خطاء، ضعيفاً كان أم قويّاً، وإنما مكمن القوة والضعف في نهج معاملة أخطائنا، الذي ينعكس بالضرورة على نهج استقبالنا لأخطاء الآخرين .
وما من ذنب إلا وجعل الله منه مخرجاً ما دامت حياة ، فمن الخطائين من يطلب المخرج من الذنب، ومن الخطائين من يذنب بالخروج من الطلب.، والعاقبة للتوابين.